لم يحدث فى التاريخ أن سلمت أمريكا محطة دفع لبناء غواصات نووية، أو ما يسمى «جواهر تاج التكنولوجيا العسكرية» إلى دولة أخرى، سوى مرة واحدة كانت لبريطانيا منذ 63 عاما. وجاء توقيع الاتفاق الأمريكى البريطانى فى 1958 فى أعقاب صفعة الاتحاد السوفييتى لواشنطن بإطلاق مركبة الفضاء «سبوتنيك» فى 1957، خلال الحرب الباردة.
والآن ستتخذ أمريكا هذه الخطوة الدراماتيكية مجددا عبر اتفاقية «أوكوس» الدفاعية مع بريطانيا وأستراليا، فيما يعتبر محاولة لمواجهة النفوذ الصينى فى منطقة آسيا –المحيط الهادئ. وسيكون التحرك الأول والمهم للتحالف الثلاثي، الذى تم الإعلان عنه فى ديسمبر الماضي، مساعدة أمريكية وبريطانية لأستراليا فى بناء أسطول مكون من ثمانى غواصات تعمل بالطاقة النووية. وسوف يتم الإعلان عن محددات هذه الاتفاقية خلال الـ 18 شهرا القادمة. وهو ما شكل ضربة لفرنسا التى خسرت «عقد القرن» لبيع 12 غواصة تقليدية إلى كانبيرا. ويعد تصدير التكنولوجيا النووية إلى دولة خالية من هذا النوع من الأسلحة، وهى أستراليا فى هذه الحالة، انتهاكا صارخا لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. وتهدف المعاهدة، التى وقعت عليها 190 دولة، إلى التزام المجتمع الدولى بمنع انتشار الأسلحة النووية وتعزيز التعاون فى الاستخدامات السلمية للطاقة النووية. وغضت واشنطن الطرف عن سعى حلفائها وراء التكنولوجيا النووية، واتبعت نهج «المعايير المزدوجة» بشأن الصادرات النووية واستخدامها، واستغلت هذه القضية كـأداة للعبة جيوسياسية خطيرة، خصوصا مع خصومها التقليديين. ففى الثمانينيات من القرن الماضي، منعت أمريكا كلا من فرنسا وبريطانيا من بيع غواصات نووية لكندا بحجة خطر الانتشار النووي. وتوجد بمعاهدة حظر الانتشار النووى ثغرة معروفة تتمثل فى أنه يمكن للدول غير الحائزة للأسلحة النووية إزالة المواد الانشطارية من قائمة المراقبة الدولية لاستخدامها فى التطبيقات العسكرية، وتحديدا لتزويد مفاعلات الغواصات النووية بالوقود.
والعام الماضى، أعلنت أستراليا عن استراتيجية دفاعية هجومية ورفعت بشكل حاد إنفاقها العسكرى بنسبة 40% إلى حوالى 200 مليار دولار أمريكى على مدى العقد المقبل لاكتساب قدرات هجومية بعيدة المدى. وفى المقابل، يمكن أن تخفف فرنسا من استيائها عبر نقل تكنولوجيا المفاعلات النووية إلى البرازيل، الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، لمساعدتها فى بناء أول غواصة نووية.
ويمكن أن تمنح «أوكوس» المزيد من القوة للمحور الروسى الصينى عبر مساعدة موسكو لبكين فى بناء قدرات غواصاتها. وهذا قد يدفع الهند وباكستان، الجارتين النوويتين، إلى اتخاذ تدابير مماثلة.
ورغم الفارق الهائل بين البلدين فى ترسانتهما النووية، حيث تمتلك الصين 320 رأسا نوويا بينما تمتلك الولايات المتحدة حوالى 5500 رأس، إلا أن التحذيرات من قدرات التنين الصينى تتزايد داخل أروقة صناع السياسة الأمريكية وبين كبار العسكريين.
وقلل الأدميرال تشارلز ريتشارد رئيس القيادة الاستراتيجية الأمريكية، المشرفة على الترسانة النووية، من أهمية البحث وراء أسباب تحديث القدرات العسكرية الصينية إلا أنه حذر من أن ذلك يمنح بكين القدرة على تنفيذ أى استراتيجية «توظيف نووي». بينما حذر فرانك كيندال وزير السلاح الجوى الأمريكى من أن الصين تتجه لامتلاك قدرة الضربة النووية الأولى. وترى أمريكا أنها تحاول ردع التوسع الصينى عبر وضع «خط فى الرمال» لأية مغامرة نووية تبدأها بكين.
وأكد وزير الدفاع البريطانى بن ولاس أن الصين تواصل أكبر إنفاق عسكرى دفاعى فى التاريخ بزيادة عدد قواتها الجوية والبحرية، وهو ما يشكل تهديدا للحلفاء فى آسيا. ويرى المحللون أن تحالف «أوكوس» يعتبر الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، ويركز الاتفاق على المقدرات العسكرية، وينفصل عن تحالف «العيون الخمس» لتبادل المعلومات الاستخباراتية، والذى يضم إلى جانب الدول الثلاث كندا ونيوزيلندا. وفى حين أن الغواصات هى الأغلى تكلفة، إلا أن أوكوس ستتضمن مشاركة القدرات الإلكترونية وتكنولوجيات أخرى. وحافظت أستراليا على علاقات طيبة مع الصين، أكبر شريك تجارى لها، لكن العلاقات انهارت خلال السنوات القليلة الماضية بسبب الخلافات السياسية. وأدانت الصين الاتفاق باعتباره غير مسئول. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو ليجيان إن ذلك يقوض السلام ويزيد من حدة سباق التسلح، وحذرت الصين من أن الدول الثلاث تفكر بعقلية الحرب الباردة.
رابط دائم: