فى الطريق الممتد بين سفاجا والقصير بمحافظة البحر الأحمر، لم يكن هناك ملاذ من صعوبات الحياة أمام عمال المناجم المنتشرة فى بطون المنطقة الصحراوية الجدباء بين المدينتين، سوى «دار السينما المتنقلة» التى كانت قديما خير مؤنس لهم.
يحكى المؤرخ والباحث وأحد أبناء مدينة القصير، طه حسين الجوهرى، أن السينما المتنقلة كانت لها حكاية جديرة بأن تروى بين ربوع مناجم الفوسفات خلال القرن الماضى.
ففى الثامن والعشرين من ديسمبر عام 1926، جاء الملك فؤاد (1868-1936) بحرا إلى مدينة القصير ليفتتح منجم “البيضا”، كواحد من أشهر مناجم الفوسفات فى ذلك الوقت، والذى يقع فى منطقة جبل “ضوي”، غرب مدينة القصير بنحو 30 كيلومترا. ووقتها كان يرافقه رئيس الديوان الملكى، ورئيس الوزراء عدلى باشا يكن، ووزير المالية مرقص حنا باشا. وتم توثيق هذه الزيارة من خلال فيلم وثائقى قصير. يومها استقل الملك إحدى العربات الصغيرة لقطار نقل الفوسفات، وسارت هذه السيارة فوق شريط السكة الحديد، الذى كان يستخدم لنقل خامات الفوسفات من مواقع الإنتاج بالمناجم، وإلى ميناء التصدير على شاطئ البحر، ويربطها أيضا بمقر الشركة بالمدينة.
بعد هذه الزيارة، استخدم الخبراء الإيطاليون، حيث كانت شركة الفوسفات العاملة بالمنطقة (مصرية- إيطالية)، هذه العربة لتحميل ماكينة السينما المتنقلة، وذلك بغرض عرض الأفلام الصامتة، وتحديدا أفلام النجم شارلى شابلن، أمام العاملين والموظفين المصريين. فقد كانت هذه العمالة تعمل بهذه المناجم وتقطن فى مناطق حولها.
وكانت العربة تجرها قاطرة لتجوب مختلف المناجم، وكان يعرض كل يوم فيلم خاص للعاملين فى مناجم (البيضا، حمضات، العطشان، النحيل، الحمراوين، أم الحويطات)، وغيرها.
وكانت الشركة تخصص يوما لعرض الأفلام داخل مدينة القصير، حيث كان يتم سحب هذه العربة إلى موقع “الكانتين” الخاص بالشركة أمام “نادى العجيمي”، وأحيانا كانت تعرض داخل مقر الشركة. وهذا التقليد كانت تتبعه الشركات والمصانع فى أوروبا حين ذاك.
وبعد تأميم الشركة، وتحديدا فى عقد الستينيات من القرن الماضى، عادت السينما المتنقلة إلى مدينة القصير. لكن هذه المرة كانت تحت إشراف وزارة الصحة، حيث كانت تجوب مدينة القصير سيارات حكومية، تأتى من القاهرة أو من الغردقة، تعرض أفلاما فى الشوارع بقصد التوعية والتثقيف الصحى. وذلك من خلال أفلام قصيرة تحتوى على إرشادات، يعقبها عرض أفلام عن الوطنية، حيث كانت تحكى كثيرا عن جوانب الثورة المصرية عام 1952. وكان لهذه الأفلام أثر كبير في توعية المواطنين، ورفع مستوى الحس الوطنى. وذلك حتى انتهت الظاهرة تماما.
ويقول حسن غايش، رئيس جمعية المحافظة على تراث القصير، إن السينما المتنقلة كانت لها صولات وجولات كبيرة فى المدينة، ورسخت أدوارا ثقافية لدى معظم سكان المنطقة حينذاك. وظل هذا الأمر حتى اختفت السينما المتنقلة، وبدأت مرحلة السينما الثابتة. وكانت بدايتها من أمام قسم الشرطة الأثرى، والذى كان ذات يوم مقرا لديوان عام محافظة القصير.
رابط دائم: