كيف يمكن الثقة فى أمريكا؟
هذا هو التساؤل الكبير الذى خيم على أوروبا هذا الأسبوع، بعدما تفاوضت أمريكا سراً مع أستراليا، وبانخراط بريطاني، للحصول على صفقة بناء ثمانى غواصات تعمل بالطاقة النووية، كانت الحكومة الأسترالية قد اتفقت عليها مع فرنسا منذ 2016؟.
فى نظر فرنسا وحلفائها الأوروبيين، فإن ما قامت به واشنطن ليس مجرد الانقضاض على صفقة مهمة للصناعات الدفاعية الفرنسية، تقدر بنحو 66 مليار دولار، و«خطف» الصفقة بطريقة لا تليق بالحلفاء. فى نظر باريس القضية أعقد وأخطر من هذا بكثير. فهى أقرب لـ «تخريب»مدمر وبدم بارد لمجمل الإستراتيجية الفرنسية-الأوروبية حيال منطقة المحيطين الهادئ والهندي، التى أصبحت البؤرة الجديدة للتنافس الاستراتيجى على رأس النظام العالمى بين أمريكا والصين.
هذا التخريب لمصالح أوروبا وفرنسا يطرح بدوره تساؤلات، حول مستقبل التحالف الأمريكي-الأوروبي، والأولويات المشتركة. فواشنطن تريد تركيز الموارد والاهتمام فى منطقة المحيطين الهادئ والهندي، لمواجهة النفوذ الصينى المتنامي. أوروبا من ناحيتها، وان كانت تشعر بالقلق من تنامى الهيمنة الصينية، إلا أنها لا ترى المنافسة مع بكين من منظور «نصف الكوب الفارغ» فقط. فهناك مصالح اقتصادية وتجارية أوروبية قوية مع الصين.
السرية والخداع الأمريكي- الأسترالى
والخاسرون فى تلك الأزمة الدبلوماسية غير المسبوقة هم كل الأطراف المعنية. ففى فرنسا هناك حالة صدمة مما سمى بـ «السرية والخداع» الأمريكى -الأسترالي، وعدم إبلاغ باريس رسميا بإلغاء الصفقة الكبيرة معها، إلا قبل ساعة واحدة من الإعلان الرسمى عن الصفقة الجديدة فى واشنطن. الصدمة ولدت تساؤلات جوهرية حول مستقبل العلاقات الأمريكية-الأوروبية. فالقارة العجوز تشعر أن أهميتها فى الإستراتيجية الأمريكية فى تراجع، منذ انتهاء الحرب الباردة. وتطورات السنوات القليلة الماضية، أظهرت صدعا يتزايد فى المصالح الأمريكية -الأوروبية. وأزمة صفقة الغواصات الفرنسية عززت هذه القناعة الأوروبية.
أما فى لندن فهناك حالة حرج ومخاوف. فمع أن لندن رحبت بتعزيز التعاون مع أمريكا وأستراليا فى منطقة المحيطين الهادئ والهندي، إلا أنها لا تريد أن يتم هذا بإغضاب فرنسا، التى تظل إلى جانب ألمانيا، أهم حليفين اقتصاديين وعسكريين للندن فى أوروبا. ولا عجب أن يدافع المسئولون البريطانيون عن دور لندن، موضحين أن إبلاغ باريس بإلغاء الصفقة مسئولية أستراليا، وليس لبريطانيا دور فى الموضوع. كذلك هناك مخاوف كبيرة من أن يتم جر لندن مجددا للسير فى ظل أمريكا، فى قضية معقدة وحساسة مثل قضية العلاقات الإستراتيجية مع الصين. ولم تخف رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماى تلك المخاوف، عندما سألت رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون فى البرلمان الأسبوع الماضي، عما إذا كانت التفاهمات الأمنية الجديدة مع أمريكا وأستراليا تعنى جر لندن لحرب ضد الصين، فى حالة نشوب توترات حول تايوان. راوغ جونسون وتجنب الإجابة على السؤال الحساس. فهناك انقسام فى الحكومة وحزب المحافظين الحاكم حيال السير فى ظل واشنطن، فيما يتعلق بالصين، على غرار ما حدث من قبل بشكل كارثى فى العراق وأفغانستان. فهناك جناح داخل حزب المحافظين، والذى ينظر إلى أفراده بوصفهم هم ورثة رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون، يرى أن على لندن أن تسعى للتقارب مع الصين وتعزيز الحوار الاستراتيجى معها فى كل المجالات، وعدم السير وراء واشنطن بشكل أعمي. وبالتالى وجدت لندن نفسها فى ضوء تطورات الأيام الماضية فى وضع محرج مع باريس، وسط مخاوف حول استقلالية خياراتها فى حالة تنامى النزاع الاستراتيجى بين واشنطن وبكين.
أما أستراليا، فخرجت خاسرة أيضاً. فهى فى مرحلة مهمة من مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبى لعقد اتفاقية تجارة حرة مع أكبر تكتل اقتصادى فى العالم. والطريقة التى تعاملت بها مع فرنسا فى صفقة الغواصات، سوف تتركها معزولة وبلا حلفاء فى الاتحاد الأوروبي. فألمانيا وإسبانيا وبلجيكا وإيطاليا وهولندا، يدعمون الموقف الفرنسى فى أزمة الغواصات بشكل كامل. باريس نفسها طرحت مسألة «المصداقية»، قائلة، كيف يمكن الثقة فى أستراليا بعد اليوم؟، فاتفاقيات التجارة الحرة مثل الاتفاقيات الدفاعية والشراكات العسكرية تحتاج للثقة. والمؤكد أن اتفاقية التجارة الحرة مع أستراليا لن تكون سلسة، ففرنسا ستسعى لإرسال رسالة لأستراليا وغيرها، أن الاتحاد الأوروبى والدول الأعضاء فيه لا يمكن إهانتها على هذا النحو.
ضربة أمريكية لخطط أوروبا
أما أمريكا، فهى من كل النواحى أكبر الخاسرين. فالأزمة مع حليف استراتيجى مثل فرنسا تأتى بعد أزمة الانسحاب من أفغانستان. وهناك تساؤلات جدية فى أوروبا، حول كيف تأخذ واشنطن قراراتها؟.
فإذا غاب عن ساكن البيت الأبيض احتمالات الغضب الفرنسى العارم، بعد أخذ صفقة تتفاوض عليها باريس منذ 2016، فكيف غاب هذا الاحتمال عن باقى المؤسسات الأمريكية، مثل وزارة الخارجية، أو الدفاع، أو مجلس الأمن القومى الأمريكي؟ .
فالطريقة التى أدارت بها إدارة بايدن أزمة الانسحاب من أفغانستان، ثم أزمة الغواصات الفرنسية، تشكل بالنسبة لأوروبا معضلة إستراتيجية كبيرة. فما قامت به واشنطن هو عملياً «ضربة أمريكية» لخطط أوروبا فى منطقة المحيطين الهادئ والهندي.
فالمقترب الفرنسى حيال منطقة المحيطين الهادئ والهندي، والذى عززته صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا، والتى سمتها الصحف الفرنسية آنذاك «صفقة القرن»، هو تعزيز الوجود الاستراتيجى الفرنسى -الأوروبى فى تلك المنطقة الحيوية لحماية مصالح أوروبا، بدون استعداء الصين أو رفع درجة حرارة المواجهة، فى منطقة تشهد بالفعل توترات وخلافات بين أطرافها الإقليمية الرئيسية وعلى رأسها الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وكوريا الشمالية.
ومنذ تولى الرئاسة الفرنسية، جعل ماكرون العلاقات الفرنسية المتنامية مع أستراليا «حجر الزاوية» فى إستراتيجيته، لتوسيع الدور الأوروبى المستقل فى مواجهة المنافسة الاقتصادية والتجارية والأمنية مع الصين فى المنطقة. وكانت صفقة الغواصات مع أستراليا خطوة أساسية فى إطار هذه الإستراتيجية.
بايدن هو ترامب... وترامب هو بايدن
ولا عجب أن يكون الغضب فى فرنسا عارما وممتدا. فإضافة إلى استدعاء باريس لسفيريها من أمريكا وأستراليا، للاحتجاج والتشاور حول الخطوات المقبلة فى سابقة خطيرة ولأول مرة فى تاريخ العلاقات بين الحلفاء الثلاثة، لم تحاول المؤسسة الدبلوماسية الفرنسية استخدام لغة دبلوماسية للتعبير عن استيائها العارم، بل استخدمت تعبيرات نادراً ما تستخدم بين الحلفاء على المسرح الدولي، ومن بينها «طعنة فى الظهر» و«أكاذيب» و«قرار وحشي» و«ازدواجية» و«ازدراء» و«انتهاك خطير للثقة».
هذه التعبيرات لا تعكس مجرد خيبة أمل فرنسية -أوروبية فى إدارة جو بايدن، بل تعكس قناعة متزايدة أن «بايدن هو ترامب...وترامب هو بايدن» فيما يتعلق بنهج «أمريكا أولاً»، وأن على الاتحاد الأوروبى ألا يتكلم فقط، بل يبدأ فى التحرك الجدى من أجل حماية مصالحه بشكل مستقل عن المظلة الأمريكية. صحيفة «لوموند» الفرنسية، لفتت إلى أن نهج «أمريكا أولاً» سيؤدى مستقبلاً إلى المزيد من المصادمات بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين، مشيرة إلى أن الأمور تزداد سوءا ولا تتحسن فيما يتعلق بالعلاقات عبر الأطلنطي، فأزمة صفقة الغواصات تأتى مباشرة بعد أزمة الانسحاب من أفغانستان، التى فاجأت فيها أمريكا حلفاءها ووضعتهم أمام الأمر الواقع فيما يتعلق بموعد زمنى ضيق وملزم للانسحاب من أفغانستان. وكتبت لوموند فى مقال افتتاحي: “بالنسبة لمن لا يزال يشك فى ذلك، فإن إدارة بايدن لا تختلف عن إدارة ترامب فى هذه النقطة: الولايات المتحدة تأتى أولاً، سواء كان ذلك فى المجالات الإستراتيجية، أو الاقتصادية، أو المجالات المالية، أو الصحية. «أمريكا أولا» هى الخط الموجه للسياسة الخارجية للبيت الأبيض».
ولم يفت الأوروبيون ملاحظة أنه برغم العلاقات الأوروبية المتوترة جدا مع الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، على خلفية تمويل الناتو، وروسيا، والمناخ، والاتفاق النووى الإيراني، والبريكست، ودور الاتحاد الأوروبي، فلم تصل العلاقات مع واشنطن لمستوى سحب السفراء، وهو ما حدث مع إدارة بايدن التى لم تكمل حتى عامها الأول فى البيت الأبيض.
حرب الروايات
وما زاد مرارة الفرنسيين من الأزمة الحالية، هى الروايات الأمريكية والأسترالية التى اعتبرها المسئولون الفرنسيين «أكاذيب». فالرواية الفرنسية تقول إن المسئولين الفرنسين وصلت إليهم أنباء الصفقة الجديدة بين أمريكا وأستراليا وبريطانيا، من تسريبات إعلامية أسترالية، وقبل نحو يومين من إعلانها رسمياً. وذكر مسئولون فرنسيون أن وزيرى الخارجية والدفاع الفرنسيين، حاولا دون جدوي، الوصول إلى نظرائهما الأمريكيين والتحدث إليهما يومى الاثنين و الثلاثاء الماضيين. ثم صباح يوم الأربعاء الماضى أرسل رئيس الوزراء الأسترالي، سكوت موريسون، رسالة للرئيس الفرنسي، يخبره فيها رسمياً بإلغاء صفقة الغواصات. بعد ذلك بنحو ساعة، أعلن بايدن وموريسون وجونسون الصفقة الأمريكية -الأسترالية فى إطار شراكة أمنية أوسع مع لندن.
هذا الترتيب الزمنى أثار حالة غضب فرنسى غير مسبوق. أيضا سفيرا فرنسا فى استراليا وأمريكا، لم يكن لديهما أى فكرة عن الأمر. وكل هذا دفع وزير الخارجية الفرنسى جان إيف لودريان بالتنديد بـ «الازدواجية والازدراء والأكاذيب» الصادرة عن أمريكا وأستراليا. ونفى لو دريان تقارير، عن إجراء مشاورات مسبقة مع فرنسا قبل الإعلان، قائلا «هذا ليس صحيحا...لا يتعامل الحلفاء مع بعضهم البعض بمثل هذه الوحشية، وعدم القدرة على التنبؤ، ومع شريك رئيسى مثل فرنسا ... لذلك هناك أزمة بالفعل..هناك أسباب تدفعنا للتشكيك فى قوة تحالفنا».
حسابات بايدن الخاطئة
هرولة واشنطن لإعلان الصفقة مع أستراليا وبريطانيا بهذه الطريقة وبعد ساعة واحدة فقط من إخطار فرنسا رسميا بموت صفقتها مع أستراليا، لم تترك مجالاً سوى لاستنتاج أن بايدن أراد «نصرا دبلوماسيا سريعا» بعد الانتقادات فى الداخل الأمريكى وعلى المسرح الأوروبى والدولي، للطريقة التى خرج بها من أفغانستان. فقد كان المبرر الأمريكى الأول للخروج السريع من أفغانستان، هو أن هناك تحديات أكبر تريد واشنطن التركيز عليها، على رأسها التحدى الصيني. وإذا كانت هذه هى حسابات بايدن فعلاً، فهى أخفقت فى رؤية تأثير الخطوة على مكانة وصورة فرنسا الدولية ومكانة وصورة ماكرون فى الداخل، وعلاقات باريس وواشنطن.
ومع أن أمريكا مصممة على التقليل من شأن الخلاف مع فرنسا، وتصوير الأزمة على أن «مجرد خلاف آخر بين الأصدقاء»، إلا أن الأزمة أعمق من هذا بكثير، وقد تطول ويمتد تأثيرها من العلاقات مع فرنسا والاتحاد الأوروبي، إلى مستقبل عمليات حلف الناتو.
فالإستراتيجية حيال النفوذ الصينى المتزايد فى منطقة المحيطين الهادئ والهندي، من المفترض أنها تتم تحت عباءة الناتو. والتفاهمات الفرنسية مع أستراليا كانت تتم فى ضوء عضوية فرنسا فى الناتو وفى الاتحاد الأوروبي. وما فعله بايدن عمليا، هو أنه أزاح حليفا استراتيجيا فى حلف الناتو وفى الاتحاد الأوروبي، من صفقة مهمة بدون تشاور أو إخطار سابق، وهذا كله يهدد الإستراتيجية الموحدة للناتو حيال التحدى الصيني، ويهدد خطط ماكرون وهو يواجه انتخابات رئاسية حاسمة فى غضون سبعة أشهر.
رد فعل فرنسا والاتحاد الأوروبى الغاضب على أمريكا وحلفائها، هو رسالة عنوانها: لا يستطيع أحد إهانة فرنسا على هذا النحو.
وهى رسالة تريد أوروبا إرسالها بصوت عال وعلى لسان ماكرون، الذى يخلف المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل على رأس المشروع الأوروبي. فميركل تودع المسرح السياسى الأوروبي، الذى تربعت عليه بنهاية الشهر الجاري، وليس هناك فى أوروبا قائد طبيعى لخلافتها سوى ماكرون. وآخر ما يريده زعيم أوروبا الجديد، أن يبدأ قيادة المشروع الأوروبى بتلقى ضربة موجعة من أقرب حلفائه إليه دون رد قوي.
رابط دائم: