رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أفكار لها تاريخ (15)
من وحدة العلم إلى وحدة المعرفة

هذه العبارة لها قصة جديرة بأن تُروى. ففى 16 أبريل من عام 1978 رحلت إلى لندن بدعوة من المجلس البريطانى بالقاهرة لإجراء حوارات مع نفر من الفلاسفة البريطانيين. وهناك التقيت فيلسوف بريطانيا فى القرن العشرين السير الفرد آير. وأمضينا معا أربع ساعات فى حوار حول حلقة فيينا وهى حلقة فلسفية نشأت فى فيينا وروج هو لها فى بريطانيا.

قال فى بداية الحوار إنه ليس عضوا فى هذه الحلقة وإن كانت أفكاره قريبة منها، ومن هنا فهو لا يمانع من أن يقال عنه إنه عضو فيها. فكتابه المعنون: اللغة والصدق والمنطق, والذى نشره فى عام 1936 يعتبر الكتاب العمدة عن فلسفة حلقة فيينا. وقد أكمل تأليفه وكان عمره خمسة وعشرين عاما. وقد لاقى رواجا على غير المألوف من حيث هو كتاب للمتخصصين فى الفلسفة. وكتبت عنه تعليقات عديدة.

وفى 11 يوليو من ذلك العام تسلمت من آير رسالة جاء فيها أنه قد استمتع بلقائى معه وأنه يقبل دعوتى له لإلقاء بحث فى المؤتمر الدولى الفلسفى الذى سأعقده فى الفترة من 15 إلى 18 ديسمبر من عام 1980 فى الكلية التى أعمل بها وكان عنوانه: مشكلة الفلسفة المعاصرة، ونشره بعد ذلك فى عام 1982 تحت عنوان: التراث الفلسفى, فى كتاب يضم أبحاثا أخرى تحت عنوان: الفلسفة فى القرن العشرين, كما دعوته أيضا إلى إلقاء محاضرة عن حلقة فيينا فى 20 ديسمبر من ذلك العام، أى بعد انتهاء المؤتمر بيومين.

وهنا يلزم التنويه بمسألة ذات مغزى وقد أثارها فى الجلسة الافتتاحية للمؤتمر وجاء قوله على النحو الآتى: منذ ثلاثين عاما كنا نناقش وحدة العلم فى حلقة فيينا. أما البروفيسور وهبة فقد ذهب إلى أبعد من ذلك إذ يريد مناقشة « وحدة العلم والفلسفة والدين». ومغزى هذه العبارة أن وحدة المعرفة تتجاوز «وحدة العلم». وإذا صدقت هذه العبارة فهل معنى ذلك أن حلقة فيينا التى كانت تتبنى وحدة العلم مهددة بأن تتوارى وتحل محلها حلقة أخرى؟ ولكن هذا السؤال يسبقه سؤال آخر وهو خاص بالتعريف بحلقة فيينا من حيث النشأة ومن حيث هوية الأعضاء المؤسسين لها. وقد أجاب آير عن هذا السؤال فى المحاضرة التى دعوته إلى إلقائها.

يحدد آير نشأتها بعام 1926 وكان رئيسها عالِم الفيزياء النووية الألمانى موريتس شليك. كان متأثرا بنظرية النسبية عند أينشتين إذ ألف بحثا عنوانه «المغزى الفلسفى لمبدأ النسبية» ثم كتيبا عنوانه «المكان والزمان فى الفيزياء المعاصرة»، ومع الوقت تحوقل حوله نفر من العلماء من غير الفلاسفة وكانت غايتهم تكوين رؤية علمية عن الكون تستند إلى معطيات حسية ليس فى الإمكان مجاوزتها إلى معطيات غير حسية لأن من شأن هذه المجاوزة أن توقع الانسان فى أوهام علم ما بعد الطبيعة واسمه الشائع باللغة الأجنبية الميتافيزيقا، وهو العلم الذى أسسه أرسطو فى القرن الرابع قبل الميلاد وظل قائما حتى ظهرت الفلسفة الحديثة فى القرن السابع عشر التى انتقدت ميتافيزيقا أرسطو.

وجاءت حلقة فيينا فى القرن العشرين لتقضى على ما تبقى من الميتافيزيقا. وفى هذا السياق كانت حلقة فيينا تروج لمبدأ محورى، هو مبدأ التحقق، ومعناه أنه لايمكن التسليم بصدق قضية إلا إذا كان لها مقابل فى المعطيات الحسية ومن ثم يصبح لها معنى.

وكان الأقوى تأثيرا فى حلقة فيينا العالِم الفيزيائى الألمانى رودولف كارناب. أصدر فى عام 1934 كتابا تحت عنوان «وحدة العلم» جاء فيه أن حلقة فيينا ليست مدرسة فلسفية وليست لدينا قضايا فلسفية لأننا نرفض جميع الأسئلة الفلسفية سواء كانت واردة من الميتافيزيقا أو من الأخلاق، لأن اهتماماتنا محصورة فقط فى التحليل المنطقى ويلزم أن يكون منفصلا عن الفلسفة أو بالأدق يكون هو مرادفا للفلسفة إذا شئنا المحافظة على لفظ فلسفة.

وينطوى التحليل المنطقى على فكرة محورية هى فكرة التحقق، ومعناها التأكد من تطابق القضية مع المعطيات الحسية. وفيما عدا ذلك فالقضية تكون بلا معنى.

ويبقى فى النهاية سؤال: لماذا قال آير ما قاله فى الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، وهو مجاوزة وحدة المعرفة لوحدة العلم؟ يمكن العثور على الجواب فيما قاله فى نهاية البحث الذى قدمه وفى نهاية المحاضرة التى ألقاها، وهو مطالبته بإعادة النظر فى القول إن العلم يلزم أن يكون محصورا فى المعطيات الحسية. وحجته فى ذلك هى على النحو الآتى: إذا بحثنا مثلا فى مسألة الذاكرة فيلزم أن نبحث فى لفظ التذكر لأننا مطالبون بالبحث فى مشروعية قبول مطالب الذاكرة ومن بينها ما تنطوى عليه من اعتقادات، الأمر الذى يستلزم البحث عن مبرر لهذه المعتقدات أو بالأدق يستلزم البحث عما يسميه آير الشاهد، وهذا الشاهد يتجاوز بالضرورة ما هو حسى إذا كان مرتبطا بمطالب الذاكرة لأنه هو نفسه لن يكون حسيا.

هذا ما قاله آير فى نهاية البحث فماذا قال فى نهاية المحاضرة. قال: لا أحد الآن يهتم بأن يقال عنه إنه من حلقة فيينا، ومع ذلك فإنها تركت بصماتها على فلاسفة فى انجلترا وأمريكا وفنلندا والسويد وهولندا وألمانيا وفرنسا. ولكنك إذا تمعنت فيما كانت تنشره مجلة المعرفة المعبرة عن حلقة فيينا فإن أغلب القضايا إما أن تكون موضع تساؤل وإما أن تكون كاذبة.

وفى نهاية المطاف هل من حقى القول إن آير كان محقا فى تطلعه إلى إمكانية وحدة المعرفة بديلا عن وحدة العلم؟. إذا كان ذلك كذلك فماذا تعنى وحدة المعرفة؟.


لمزيد من مقالات د. مراد وهبة

رابط دائم: