رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

يوم التنظيف

رحاب إبراهيم

دخلت أم قدرية بيتنا قبل أن أدخل المدرسة


قبلها أذكر فتاة ريفية صغيرة كانت تعتنى بى وبأختى, ولم أكن أحبها

أما أم محمد فلا أذكرها إطلاقا, ولولا الصورة التى تقف فيها خلف عربة أختى الرضيعة فى المصيف ما عرفت اسمها أبدا.

استمرت أم قدرية فى زياراتها المنتظمة لبيتنا طوال فترة طفولتى وصباى, حتى بعد زواجى ظللت أسمع أخبار زياراتها بين فترة وأخرى, وكيف لم تعد تقوى على العمل الشاق لكنها لا تحب أن تغيب طويلا عن «حبايبها».

ما اعتادت القيام به كان شاقا بالفعل, وكنت أكره يوم زيارتها - بينى وبين نفسى طبعا -

وأسميها العاصفة – مع نفسى أيضا –

تأتى مبكرة, فتفتح كل الأبواب والشبابيك والشرفة الكبيرة المتصلة بغرفة الجلوس وكذلك الشرفة الصغيرة المتصلة بالمطبخ.

تفتحها كلها فى وقت واحد بينما لا أزال تحت الأغطية الدافئة.

يهاجمنى النور والهواء.

ثم لا تكتفى بذلك.

تسحب السجادة من تحت الأثاث كما يسحب الفطاطرى فطيرة.

وتقذف بها لسور البلكونة حيث تبدأ عملية التنفيض غير ملتفتة للكسالى النائمين حتى الظهر – الذين هم أنا وأخوتى – رغم الثلاث ساعات المتبقية على ظُهرها المزعوم.

على مدى سنوات عملها مارست التنفيض بنفس الحماسة والإخلاص.

بدأتها باستعمال منفضة خشبية يدوية الصناعة, ثم انتشرت المنافض البلاستيكية الصغيرة صينية الصنع والتى رفضت استخدامها فى البداية, حتى فعلت ذلك مضطرة حين لم يعد هناك بديلا.. تمسكها وتقلبها بين يديها فى شك مختلط بالقرف وتقول:

«الدنيا اتقلّ خيرها»

اضطر للقيام, لأن خطوتها التالية هى تشميس المراتب والفرش.

دقائق قليلة ثم لا يبقى فى البيت مأوى لى فأتجه للمطبخ.

غالبا ما يقتصر دورى على تحضيرالفطور والغداء, فهى لا تقوم سوى بأعمال التنظيف.

شهدت أم قدرية تطورات مهاراتى المطبخية بدءا من الخبز محترق الأطراف والرز المعجن, وصولا لوجبات مقبولة متكاملة الأركان, دون أن تُبدى أبدا أى انتقاد ولو بتعليق عابر أو لوم مستتر كما تفعل النساء فى مثل عمرها عادة.

عاصرت أيضا تطور شخصيتى بكل ارتباكات المراهقة الحادة, وكل القسوة الواثقة فى الشباب بحياد تام وبلا أدنى لوم.

رغم تقلباتى المزاجية كنت أكنّ لها إحساسا خاصا قد يخبو قليلا لكنه لا يختفى.. إحساس عميق بالحب والتقدير سببه موقف صغير بالتأكيد هى لا تذكره, حتى أنا أحيانا احتفظت بمشاعرى تجاهها بلا تفسير واضح.

كنت قد بدأت للتوّ أيامى الأولى فى المدرسة حين عدت بثياب متسخة.

لم أستطع تفادى بركة الماء الصغيرة أمام بوابة المدرسة والتى أخذ التلاميذ يدورون حولها بمهارة لاعبى السيرك, أما أنا فقد غصت فيها مع أول تدافع خلفى.

استقبلت أم قدرية وجهى المحتقن بلهفة أم, تركت ما فى يدها وأدخلتنى برفق للحمّام.

وسط بكائى الشديد خجلا من شكلى وخوفا من عقاب أمى.

ساعدتنى على الاغتسال واستبدال ملابسى دون أن يكون هذا العمل من مهماتها وعادت لتكمل عملها بعد أن مرّ الأمر فى سلام.

لا أذكر أنها أشارت لهذا الموقف أبدا بعدها لا من قريب ولا من بعيد وربما اتفقنا ضمنيا على أنه شىء لا يستحق الذكر.. أنا لرغبتى فى تجاوز مأساتى الصغيرة, وهى لاعتقادها أنه شىء بسيط ومعتاد.

مرت سنوات الطفولة, وبدأت أخطو نحو الصبا بثبات, وكما يود المراهق التخلص من طفولته كنت أتخلص من النظام الذى يفرضه وجودها فى يوم التنظيف الأسبوعى.

فمرة أطلب منها أن تغلق الشرفة ومرة أخبرها أن تعيد تنظيف شيئالا تعجبنى نظافته, أو أن ترتب الأحذية بطريقة معينة, لا ترتيبا عشوئيا كما اعتادت.

لا أذكر سبب غضبى الذى جعلنى أقول لأبى مرة: هى تؤدى لنا خدمة مقابل أجر.. هذا كل ما فى الأمر

أجاب نافيا بشكل حاسم: لا طبعا.. ليس هكذا تركنى بعد النفى القاطع وصمت كعادته دون أن يقدم تصحيحا واضحا لما قلت أو وصفا بديلا.

أظن أنه اكتفى بما سوف تعلمنى الأيام إياه على مهل.

بدأت أم قدرية تنادينى بلقب «الدكتورة» فور ظهور نتيجة الثانوية العامة.

الأمر الذى أثار دهشتى.. كيف تحولت بين يوم وليلة من البنت التى كانت تناديها بأسماء الدلع المختلفة لـ «الضاكتورة» كما تنطقها!

بالنسبة لى لم يكن شيئا قد تغير بعد ولا حتى عرفت شكل الكتب فضلا عن فكرة كتابة علاج لشخص ما.

لكنها منحتنى اللقب بلا تردد بل وبكل فخر.. ربما لم تصرح أبدا أن لها فى هذا اللقب نصيبا لكننى الآن أعلم هذا جيدا.

رغم حكاياتها العديدة عن بناتها وأزواجهن ثم عن أحفادها فإنها لم تكن تحكى الكثير عن زوجها حتى شككت فى وجوده أصلا, لولا المرة الوحيدة التى ذكرته فيها وهى تحكى عن زيارة أحد لمشايخ المعروفين لقريتها, إذ سألت الشيخ عن حكم الأكل معه وهو لا يصلي, فأخبرها بجواز أن تشاركه الطعام بشرط أن تضع حدّا فاصلا بين طعامها وطعامه.

كانت الفتوى لا تقل غرابة فى نظرى عن السؤال..

ولم أربط ذلك الحرص على معرفة الحلال والحرام حتى فى تفاصيل بسيطة بحرصها على الصلاة مهما كان العمل الذى فى يدها.

لم أعدّ أيا من ذلك دليلا على تدينها, فمظهرها لم يكن يختلف عن أى سيدة ريفية ترتدى الجلباب الملون وتبدو أحيانا خصلات شعرها الفضية من تحت الطرحة التى تربط بها رأسها.

لم تكن تشبه الأخوات الملتزمات التى تعرفت عليهن وعلى عائلاتهن فى المدرسة واللاتى نجحن فى إقناعى وقتها بالنسخة الموحدة للتدين المقبول.

لذا احتفظت بها فى ذهنى مجرد امرأة عادية لسنوات طويلة كان يجب أن تمرّ قبل أن أدرك الفرق بين العادى والثمين.

شاركتنا أم قدرية كل المناسبات الاجتماعية من خطوبة وزواج ووفاة وسفر وإياب

قبل أن تخف زياراتها تدريجيا.. ربما بسبب مرض وربما لأنها أكملت رسالتها فى تعليم وتزويج أولادها

عادة ما تخطر فى بالى يوم الجمعة – يوم زيارتها المعتاد لبيت أهلى فى مدينتى الصغيرة البعيدة.

وحين أدير محطات المذياع بحثا عن إذاعة تنقل لى شعائر الصلاة, أتذكرها وهى تمسح زجاج النوافذ بهمّة, مستغرقة فى الاستماع لتلاوة الشيخ فى المسجد المقابل.

أذكر الحسرة فى صوتها حين تنتهى التلاوة فتتنهد قائلة: خلصت ليه يا عم الشيخ!.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق