تباين القدرات سنة كونية.. وتقبل الأقدار من تمام الإيمان
مع اختلاف طرق التعليم، وما أسفرت عنه من انخفاض فى مجاميع طلاب الثانوية العامة هذا العام؛ ظن كثير من أولياء الأمور والطلاب أن عدم الالتحاق بكليات بعينها يمثل إحباطا لطموحهم، وتحطيما لآمالهم، الأمر الذى يدعوهم معه علماء الدين إلى تقبل أقدار الله، مؤكدين أن اختزال التفوق فيما يطلق عليه (كليات القمة)، نظرة قاصرة، وأن النجاح الحقيقى لا يقتصر على كلية بعينها، بل يشمل كل تخصص يتقنه صاحبه، ويخلص النية فيه لله عز وجل.
فى البداية يؤكد الدكتور عبدالمنعم إبراهيم عامر، الباحث الشرعى، أن الإسلام يريد طالبا قويا فى دراسته، لأن “المؤمن القوى” علميا ودراسيا “خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف”، ثم رسم له الإسلام طريقه إلى القوة وكيفية تحصيلها فقال صلى الله عليه وسلم: “احرص على ما ينفعك” آخذا بكل ما من شأنه أن يقويك دراسيا مستعينا بالله فى أمرك كله، فإن أصابك شىء تكرهه من ضعف المجموع عن أن يدخلك ما تصبو إليه من كلية، فإياك من فتح أبواب الشيطان التى منها قولك “لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا”، بل تحل بالرضا قائلا: “قدر الله وما شاء فعل”، لأن هذا ابتلاء لك من الله، ودليل على محبته لك”، ففى الحديث: “إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ”.
ويضيف: إن جزاء الرضا عن الله وقدره أنه سيرضيك بإدراك ما هو أفضل لك فى المستقبل من كليات، كما رأينا نماذج من الناجحين كان أحدهم يصبو إلى أن يكون طبيبا فإذا به يُوفق إلى ميدان آخر فيتفوق فيه ويبنى مستشفى أو أكثر يعمل لديه فيه عشرات الأطباء، أو يبنى مصانع فيعمل تحت يديه عشرات من خريجى الهندسة التى كان يصبو أن يكون أحد خريجيها ولم يوفق، والنماذج على ذلك كثيرة.
ويوضح أن الله، تعالى، ربما صرف عنك من الشر كالحسد والعين التى آذت كثيرا من المتفوقين فلم يهنأوا بتفوقهم ولا جامعاتهم ولم يهنأ أيضا بهم ذووهم وأهلوهم، ولتنظر إلى السفينة التى خرقها “الخضر”، عليه السلام، لينقذ أهلها، وإن بدا فى الظاهر عكس ذلك. فلعل الله أنقذك بهذه النتيجة من مهالك. ثم على العكس إذا لم ترض فاتك الخير والرضا، وفتحت أبوابا للشيطان منها الجزع والسخط الذى جزاؤه سخط أيضا من الله أولا ثم من نفسك على نفسك فتصاب من ذلك بكآبة ووساوس ربما أدت بك إلى الإحباط وعدم التفكير فى إعادة المحاولة، وتحصيل ما تصبو إليه.
حصار نفسي
من جهته، يرى الدكتور مصطفى حسين، مدرس التاريخ الإسلامى والحضارة بكلية دار العلوم بالقاهرة، أن الطفل المصرى منذ مرحلة الروضة يبدأ حصاره نفسيا بعوامل عدة منها أحلام الوالدين وطموحات المقربين التى تحاول الإجابة عن السؤال: كم سيحصل عندما يصبح طالبا فى الثانوية العامة من مجموع؟، وكثيرا ما نسمع منهم مبكرا وصفهم له بأنه الدكتور فلان أو المهندس فلان، كأن الفلاح محصور بين كليتى الطب والهندسة، أو كأن ما سواهما من الكليات والمعاهد والمؤسسات الجامعية ليست سوى مجالات أدنى.
ويستطرد: على هدى من ذلك يكون الشعور النفسى لدى الطلاب منذ نعومة أظفارهم صوب ضرورة الحصول على مجموع كبير فى الثانوية العامة، ثم الالتحاق بكلية من كليات القمة، واصفا ذلك بأنه “فساد وتضليل وإهدار لطاقات جبلت على التنوع”، متسائلا: “لماذا نغرس تلك الطبقية التعليمية ثم الوظيفية فى نفوس شباب هم الأمل الأخضر لكل أمة؟ ولماذا تربى الأسر والمدارس والمؤسسات التعليمية أبناءنا وبناتنا على التمييز الفكرى والسلوكى بين ذوى المهن والوظائف المختلفة بلا سند من فهم أو فكر رشيد؟
ويتابع: كثيرا ما نتساءل: لماذا يقلل البعض من مهنة المعلم؟ ولماذا يتعامل باستعلاء مع ذوى الحرف والمهن كالطباخ والسائق والعامل والسباك والحداد والميكانيكى والنقاش والنجار والفنيين فى مختلف المجالات التطبيقية؟ إن ذاك الغول (الثانوية العامة) الذى ربيناه فى مجتمعنا وغذيناه بأوقاتنا وأعمالنا قد تربع على عروش العقول وطموحات الأبناء. فقد ربيناهم على مقدمات مادية لا علاقة لها بمعايير النجاح والفشل، وجعلناهم يقدمون على إهلاك أنفسهم، فيقضى أحدهم زهرة عمره مكتئبا حزينا؛ لأنه “أصبح فاشلا”. ومفهوم الفشل لديه أنه نقص درجة أو نصف درجة فلم يدخل الكلية التى طالما تردد اسمها على مسامعه.
تصحيح المسار
والأمر هكذا يشدد الدكتور “مصطفى حسين” على أن النجاح الحقيقى أن يحقق الإنسان أحلامه التى نبتت فطريا داخله، وهذا لا يرتبط بنوع الكلية ولا بنمط التعليم، قائلا: “ما أكثر أولئك الذين التحقوا بمراحل التعليم الثانوى الصناعى والتجارى والزراعى والفندقى وثانوية التمريض وغيرها من السبل المختلفة غير الثانوية العامة فكانوا أنفع لأنفسهم وأهليهم وبلادهم من خريجين تحطموا عندما اصطدموا بغول “الثانوية العامة” فالتحقوا بكليات وأنفقوا فيها سنوات وأموالا وبذلوا جهودا ليقضوا أعمارهم إما حاملى شهادات لا يعملون بها أو عاملين بشهادات لا يحبون العمل فى مجالها، وهذا الاضطراب لا يدفع ثمنه سوى الوطن”.
ومقترحا يقول: علينا أن نصحح المسار بأن نعيد النظر فى ذلك الغول الذى ربيناه صغيرا ثم تعهدناه كبيرا فى بيوتنا ومجتمعنا. فلنرب أبناءنا وبناتنا منذ الصغر على حب ما يتعلمون وتعلم ما يحبون، وأن نضع أمامهم كل الخيارات، ثم نسخر لهم كل الإمكانات، ولا نزيد على مراقبتهم من بعيد لينجح كل منهم فى المجال الذى اختاره بعد أن يسلك النظام التعليمى الذى يحقق له حلم النجاح.
ويشير إلى أن كليات “القمة” و”القاع” ثنائية زائفة كثيرا ما كلفتنا، بل أزهقت أرواحا بريئة لا يعوضها شىء، إذ الناجح الذى يحقق ذاته فى أى مجال فيحيا حياة طيبة، ولا فرق فى ذلك بين طب أو هندسة أو علوم إنسانية أو مجالات فنية، ولنا الأسوة الطيبة فى كثير ممن سبقونا أمثال الدكتور أحمد زويل ذلك العالم الفذ الذى أحدث ثورة فى علوم الليزر إذ كان طالبا فى كلية العلوم.. والمفكر الإنسانى صاحب العبقريات الناقد الأديب عباس محمود العقاد الذى لم يكن له نصيب من التعليم إلا المرحلة الابتدائية فكان معلم نفسه ثم أستاذ غيره وتوغل صيته الحسن فى الضمير المصرى والعربى والإنسانى كله.
التنوع سنة كونية
فى سياق متصل، يوضح الدكتور سارى زين الدين، الأستاذ المساعد للدعوة والثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر، أننا “إذا استحضرنا السنن والمبادئ والأسس التى نظم الله عز وجل عليها الكون وفطر عليها الإنسان لوجدنا أن الله عز وجل جعل الاختلاف من الأسس والمبادئ التى أقام عليها الكون، وخلق عليها الناس. يقول عز وجل: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ”، فالاختلاف سنة الله فى كونه؛ والاختلاف هنا تكامل لا تضاد؛ فالله عز وجل جعل الناس فى أعمالهم على مراتب ليكمل بعضهم بعضا؛ فالكون لا يمكن أن يقوم على نوع واحد.
ويضيف: ما نراه كل عام من الأسر والأفراد من الكآبة والحزن التى تصل إلى حد الانتحار أحيانا إذا لم يصل الطالب إلى كلية ما، كأنها منتهى الآمال. هذا اعتراض صريح على سنن الله عز وجل، ويدل على عدم الرضا بقدره سبحانه وتعالى، فقد جاء فى الحديث أن من أسس عقيدة المرء الإيمان بالقدر، حينما سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: “وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ”، فلا يند شىء فى كون الله عن قدر الله، فالإنسان يسعى ويجتهد لكن الله ادخره لمهمة يقوم بها فى أرضه، فعلى المرء أن يرضى باختيار الله عز وجل له، فلا يمكن لجميع الخلق أن يكونوا أطباء أو مهندسين، بينما تسير الحياة القائمة فى الأصل على الاختلاف والتنوع.
ويختم حديثه ملخصًا: “على كل طالب لم يبلغ ما تمنى؛ أن يرضى، هو وولى أمره، بقدر الله عز وجل، وأن يعلما أن الخير كل الخير فى قدر الله عز وجل، واختياره”.
رابط دائم: