رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

المصريون وفوضى الحوار

فى يوم من الأيام كنا من أكثر شعوب العالم تحضرا وترفعا فى حوارنا وخلافات الرؤى بيننا .. وكان من الصعب أن تسمع كلمة نابية أو حوارا هابطا وكانت هناك ضوابط أخلاقية وسلوكية تحكم العلاقات بين الناس فى الشارع والعمل والأسرة .. وكان المجتمع حريصا أن يحافظ على هذه الثوابت خوفا وانضباطا وإحساسا بالمسئولية.. ولا ادرى ما هى أسباب هذه الفوضى والتراجع التى أصابت لغة الحوار وتطورت حتى وصلت إلى مستوى هابط لغة وسلوكا وربما تجاوزا..

> تبقى كوارث لغة الحوار فى الشارع المصرى وأكاد لا اصدق قاموس المعاملات حوارا وسلوكا ولغة .. أنت تواجه هذا القاموس فى إشارات المرور والخناقات فى الشارع والصراعات بين السكان فى البيوت .. وغابت تلك الأساليب الراقية فى التعامل بين الناس حين كان التعاطف والرحمة أساس التواصل والمودة .. لم يعد الشارع المصرى حريصا على علاقاته القديمة حتى علاقات العمل تغيرت فى كل شيء وسيطرت عليها الشللية والانتهازية والمصالح ومن يتجاوز من فى المناصب والألقاب..

> كانت الأسرة المصرية من أكثر القوى الاجتماعية التى تعرضت لهذا الداء القاتل وهو فساد لغة الحوار .. ولم يقتصر ذلك على أساليب التعامل بين أبناء الأسرة الواحدة فى الحوارات والبذاءات وغياب تقاليد الاحترام وتقدير الكبير والرحمة بالصغير ولكن كان انتشار الجرائم من اخطر ما يهدد استقرار الأسرة المصرية مع ارتفاع نسبة الطلاق والمخدرات بين الأعمار الصغيرة التى وصلت إلى مراحل الطفولة..

> إننا لا نستطيع أن نفصل بين هبوط لغة الحوار وتراجع جوانب أخرى فى حياتنا مثل الأمية والمستوى الثقافى وغياب الوعى .. بل إن تراجع مستوى اللغة العربية فى المدارس والجامعات ووسائل الإعلام والمسلسلات قد وصل بلغة الحوار إلى هذه الحالة من التردى والتراجع .. إننا نسمع فى المسلسلات مالا يقال ونسمع فى الغناء كلمات لا تصدق وكثيرا ما تتردد فى الحوارات ألفاظ لا تليق .. إن الأزمة الحقيقية أن الأشياء تداخلت فى بعضها وأصبحت ظواهر سلبية تشوه صورة مصر وأبنائها ..

> إن المأساة الحقيقية الآن التى أطلقت مستنقعات الحوار الهابط هى مواقع التواصل الاجتماعى .. وقد تحول بعضها لأوكار للابتزاز والشتائم والبذاءات حيث لا رقابة ولا حساب .. وقد تحولت هذه المواقع إلى مصادر لنشر الشائعات والأكاذيب .. وفى أحيان كثيرة تبحث عن مصادرها وتكتشف أنها مجهولة المصدر والمكان .. إن الأخطر من ذلك أن هذه المواقع تحولت إلى مصادر للمعلومات وكثيرا ما استعانت بها مصادر جادة تخفى أغراضا مشبوهة ..

> إن عالم التواصل الاجتماعى أصبح الآن عالما سريا غامضا تديره دول ومؤسسات كبرى .. وتسللت إليه أموال ضخمة وأصبح للإرهاب دور كبير فى السيطرة عليه .. إن هذا العالم الغامض أصبح بعيدا عن الحكومات وهو ينطلق من أى مكان وفى أى وقت ويحمل كل ألوان الكذب والتضليل ولا رقابة لأحد عليه..

> إن مواقع التواصل الاجتماعى لم تشوه فقط علاقات الشعوب ببعضها أو الحكومات ولكنها أساءت للعلاقات بين الدول .. وكثيرا ما نشرت الأكاذيب والشائعات وشاركت فى إفساد العلاقات .. وفى أزمات كثيرة كانت الشائعات والأكاذيب سببا فى قطع جسور التواصل بين الأشقاء .. انه لا علاج لهذا الوباء غير الوعى والثقة وكشف الحقائق أمام الشعوب..

> إننى كثيرا ما استعيد لغةٍ المصريين وحواراتهم الراقية فى أزمنة مضت فى الأدب والفنون والسياسة .. وكيف كان الترفع فى لغة الحوار بين الساسة الكبار فى جميع القضايا .. وكان المجتمع مشحونا بعشرات الأهداف فى استقلال المرأة والتعليم والفكر والثقافة ولم ننحدر إلى هذه المستويات الهابطة والمبتذلة فى المعارضة والرأى الآخر .. وفى عهود لاحقة لم تشهد مصر هذا المستوى من التراجع ولم يكن ذلك منها ولكن المثقف كان يدرك دوره ومسئولياته ..

> كانت هناك خلافات وصراعات بين الأحزاب والنخبة الثقافية ولكنها لم تتجاوز فى لغة ومستوى الحوار .. كان المثقفون الكبار لهم معاركهم الفكرية والسياسية ولكنها لم تلجأ إلى التجريح والإهانات والتشويه.. لا ادرى لماذا غابت عنا هذه القيم وتراجعت بيننا لغة الحوار فى كل شيء ابتداء بلغة التعامل فى الأسرة الواحدة وانتهاء بمخاطبة المسئولين وتشويه صورهم بالحق والباطل.

> إن الذين شوهوا تقاليد مصر المترفعة والنبيلة افسدوا أجمل ما فيها.. لا احد يرفض الخلاف فى الرأى أو النقد مهما يكن قاسيا، ولكن هناك فرقا بين النقد والبذاءة والرؤى والتجاوز وحرية الحوار وانحطاط المواقف .. إن كل شيء يمكن أن يقال والأبواب مفتوحة أمام الكلمة الجادة المترفعة التى لا تسيء ولا تجرح وما أكثر الجراح بل والجرائم فى لغة الحوار بين المصريين الآن.

> لا أنكر أن ما يواجهه كبار المسئولين من حوارات تتخفى فى سراديب الحريات وتبادل الرؤى ابعد ما تكون عن لغة الحوار الراقى التى اعتدنا عليها .. إن هذا التردى والانحطاط لا يمكن أن يدخل فى نطاق الحريات والحوار والرأى الآخر.. إن هذا عبث واستخفاف وتشويه لكل المقومات والثوابت التى يقوم عليها الحوار الحقيقى.. إن تشويه الرموز بهذه الأساليب الوحشية إهدار لكل القيم وإفساد لكل ما هو مضىء ومترفع فى هذه الحياة.

> هناك قضايا نالها الكثير من التخبط وسوء التقدير وفى مقدمتها قضية إصلاح الخطاب الدينى.. فقد شهدت تجاوزات كثيرة فى الطرح والحجة وأسلوب الحوار حتى وجدناها أمام المحاكم حين وصل الأمر إلى تهم الإرهاب وتهديد امن واستقرار الدولة وانتقلت القضية من خلاف فى الفكر إلى صراع سياسى..

> إن هذا الواقع الاجتماعى المختل والمشوه كان من الضرورى أن يهبط بلغة الحوار .. وتأتى المدرسة فى قائمة الأسباب لأن الأطفال الصغار نقلوا الأمراض من البيت والشارع والأسرة إلى فصول الدراسة .. وإن كنت لا استطيع أن أبرئ المسلسلات والأغانى وحشود الفن الهابط التى تجتاح الحفلات والبيوت والشوارع من هذه الجرائم.

> هل هو الحوار الحقيقى الذى اختفى أم الصراعات والانقسامات التى أطاحت بالكثير من ثوابت الشخصية المصرية؟! .. إن الشىء المؤكد أننا أمام إنسان مصرى اختلف فى كل شيء وأمام شخصية تشوهت فى الكثير من ثوابتها .. ولعل هذا ما جعل العقلاء فى هذا البلد يطالبون بدراسة أسباب هذه الظواهر السلبية وفى مقدمتها لغة الحوار وهى من أهم مظاهر الفوضى فى حياة المصريين.

> لابد أن نتمسك بالحوار الجاد .. وأن نعود إلى ثوابتنا القديمة ترفعا وأن نعيد للشارع انضباطه وللأسرة تقاليدها وللفن قدسيته وللإنسان احترامه لذاته ومسئوليته فى الحياة.

 

ويبقى الشعر

نَغَمٌ أنـَا ..

يَنسَابُ مِنْ شَفتـْيـِكِ

تهْدأ وشوَشاتُ الموجِ

تسْكن همهَماتُ الريح ِ

تنطلقُ العصافيرُ الجَميلة ُ

فى سَماءِ الكـَوْن ِ

يطوى الصَّمتُ أعناقَ الشجرْ

هلْ تهربينَ مِن ارتعاش القلبِ

مِنِ صَخبِ الحنين

مِنِ اندلاع ِ النورِ

فى القلبِ الحزِين المنكسرْ ؟

حلمٌ أَنـَا ..

هل تكرهينَ مواكبَ العشـَّاق ِ

والأشواقُ ترقصُ فى ركابِ الحُلم ِ

والزمن الجميل المنتظـرْ

أم تندَمين على الزمان ِ وقدْ مَضَى ؟!

مَنْ يُرجعُ الأيامَ يا دنياىَ ؟!

لنْ يُجدى البكاءُ ..

على زمَان ضاعَ منـَّا .. وانـْدَثرْ

خوْفٌ أنـَا ..

ماذا سيفعلُ عاشقٌ

والليلُ يطردهُ إلى الآفاق ِ!

تتبعهُ جيوشُ الحزن ..

تتركـُه بقايا بينَ أشلاءِ العُمرْ

فى أىّ جُرح ٍ فى ربُوع القلب

كنتِ تسافرينَ .. وتعبثينَ ..

وجُرحىَ المسْكينُ فى ألم ٍ يئنُّ وَينفطـْر؟

سَفرٌ أنـَا ..

إنى أراكِ على رحيل ٍ دائم ٍ

وأنا الذى علمَّتُ هذا الكوَن

ألحانَ الرحيل ..

وكانَ شعرى أغنياتٍ للسفرْ

كمْ عشتُ أرسمُ فى خيالى

صورة العمر الجميـِل

وصرتُ مثل الناس

تمثالا ًمن الشمْع الرَّخيص

بأىّ سعر قد يُباعُ ..

بأى سهم ٍ.. ينكسرْ

ألمٌ أنا ..

لا شَىء فى البستان ِ يبقى

حين يرتحلُ الربيعُ

يَشيخُ وجهُ الأرض

تصمتُ أغنياتُ الطير .. يرتعدُ الوترْ

فى روضة العشاق

أرسُمُ ألفَ وجهٍ للقاءِ ..

وألفَ وجهٍ للرحيل ِ..

وألفَ قنديل ٍ..

أضاء العمرَ شوقـًا .. وانتحرْ

حُزنٌ أنا ..

إنى لأعرفُ أنَّ أحزانى

ضبابٌ يملأ الكونَ الفسيحَ

يسدُّ عينَ الشمس ِ

يَخْبُو الضوءُ فى عَينى

فلا يبدو القمرْ

أنسابُ فى صحراءِ هذا الكون

تنثرنى الرياحُ .. وتحتوينى الأرضُ

ثم أعودُ أمطارًا يبعثرها القدرْ

وهمٌ أنا ..

ليلٌ .. وأغنية ٌ.. ونجمٌ حَائرٌ

قد كان يتبعنى كثيرًا ..

ثم فى سَأم ٍ عَبرْ

سطـَّرتُ فوقَ الشمس أحلامى

وفوق اللافتاتِ البيض ِ..

فى الطرقاتِ .. فـَوقَ مرايل الأطـْفال

رَغـَم الصَّمتِ .. أنطقتُ الحَجرْ

ماذا سأفعلُ والزمانُ المرُّ

يُسكـُرنى من الأحزان ِ

والأملُ الوليد يُطل فى عينى

ويخذلنى النظرْ ؟!

سافرتُ ضوءًا فى العيون

وعدتُ قنديلا ًحزينـًا ..

ينتشى بالحُلم ِ أحيانـًا

ويطفِئهُ الحذرْ

هذا أنا ..

سفرٌ .. وأشواقٌ .. وقلبٌ هائمٌ

وشراعُ ملاح ٍ تهاوى .. وانكسرْ

ضوءٌ يُطلُّ على جبين الأرض

نارٌ فى الضلوع .. لـَهيبُ شوق يستعرْ

دمعٌ أمام العشبِ ينزفُ .. تنبتُ الأوراقُ

تحملها الرياحُ إلى الفضاءِ

ويحتويها الموتُ فى صمت الحُفرْ

روحٌ تـُحلــّقُ ..

فوق أنفاسى تلالٌ من جليدٍ

فوق أقدامى جبالٌ من حديدٍ

بين أعماقى حنينٌ للسفرْ

هَذا أنا ..

بالرغم من كلّ العواصفِ

تهدأ الأشجارُ أحيانـًا

وتترك نفسها للريح ِ أحيانـًا

فيسْكـُرها المطـْر

سأعيشُ فى عينيكِ يومًا واحدًا

أنسى به الزمنَ القبيحَ ..

أطهرُ الجسدَ العليلَ ..

أذوبُ فيكِ .. وأنصهرْ

يَومٌ وحيدٌ فى ربوعكِ أشتهـِيهِ

بغير حزن ٍ.. أو هموم ٍ.. أو ضجرْ

يومٌ وَحيدٌ فى ربوعِكِ أشتهيهِ

وَسوف أمضِى ليسَ يَعنِينـِى

زَمانٌ ..

أو مكانٌ ..

أو بشرْ

قصيدة "ما عاد الحلم.. يكفى" سنة 1996

[email protected]
لمزيد من مقالات يكتبها فاروق جويدة

رابط دائم: