جلسَ ستةُ أطباء فى مطعم على قارعة طريق.. يستمتعون بشرب الشاى والقهوة.. فمرّ من أمامهم رجلٌ أعرج .. فقال أحد الأطباء: هذا مصاب بالتهاب مِفصلِ ركبتهِ اليسري..وقال الثاني: هو مجرد التواء.. وقال الثالث: هذا يعانى من التهاب أخمصى فى وجه القدم.. وقال الرابع: انظروا لا يستطيعُ رفعَ ركبته.. يبدو ذلك بسبب خلل فى خلايا عصب الحركة السفلي.. قال الخامس: أعتقد أنّ لديه شللاً نصفيًّا وقبل أن يتكلم الطبيب السادس ويدلى بتشخيصه للمرض.. وصل الرجلُ إلى المجموعة وسألهم: أين أجد أقربَ إسكافى لإصلاح حذائي؟ كانت مشكلته الحقيقية هى الحذاء ولكن اختلفت الأنظار فيه!. حكاية لطيفة تتداولها منصات التواصل الاجتماعى فيها عبرة.. وفيها دعوة للتأمل فى طريقتنا فى التفكير.. فنحن عادة نصدر أحكاما مبنية على الحدس والارتجال والاستسهال.. راقب سيادتك مناقشات أغلب الناس.. سوف ترى معظمها لا منطق له.. فمثلا أحد المذيعين يجرى حوارا مع ضيوف اقتصاديين ثم ينبرى ليحسم النقاش قائلا.. أنا كنت فى أحد المولات وشاهدت عائلات تشترى عربات محملة بالبضائع.. محدش يقول لى إذن إن الناس ممعهاش فلوس.. استنتاج عجيب وتعميم مخل يختزل المائة مليون فى مئات المشترين فقط.. أو أن يقول لك أحدهم.. أنا كنت فى باريس وكلما سألت أحد الفرنسيين عن عنوان مايردوش على أو يكلمونى فرنساوى أو يقولون لى شوف الخريطة المعلقة هناك فى الميدان أو فى خريطة المترو.. أنا بصراحة كرهت فرنسا بسبب أسلوبهم ده.. وهكذا نرى أن تجاربنا الشخصية تنحرف بأدمغتنا.. أنا شخصيا وقعت فى الغلطة نفسها.. كنا فى زيارة إعلامية للصين وفى إحدى الأمسيات جلسنا نشاهد مباراة على التليفزيون بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية.. وفجأة التفت لى أحد الصينيين قائلا.. تفتكر مين حيكسب المباراة؟ فقلت له للأسف فريق كوريا الجنوبية متقدم بثلاثة أهداف ومسيطر على الملعب ونحن فى نهاية الشوط الثاني.. غالبا كوريا الشمالية تحتاج معجزة كبرى لكى لا تخسر المباراة.. وكانت أكبر غلطة منى فلم أتخيل أن الانحياز السياسى لديه سوف يجعله يكذب الحقيقة التى أمامه.. هاج وماج وتشنج.. وبرطم بالصيني.. وتدخل الناس لتهدئته فاشتبك معهم بالأيادي.. فخرجنا بأعجوبة.. وقد تتعجب أيضا من يقين بعض المثقفين فى القطع بمعلومات معينة فى أمور دقيقة وحساسة جدا لا يسبر غورها إلا رجال الأمن.. كمن يتحدثون عن أخبار سد النهضة وإثيوبيا بجزم وثقة يحسدون عليها.. وقد قال لى خبير أمنى مرموق.. حتى لو وصل البعض إلى تسعين فى المائة من المعلومات.. فالعشرة فى المائة المتبقية نحن نسميها الغاطس.. وهى المعلومات غير المرئية التى تحسم القضية.. ماهو سبب هوسنا إذن بالظهور بصورة من يعلم كل شيء؟.. ولماذا يفتقد الكثيرون منا منهجية التفكير والموضوعية والرؤية الشاملة والمتوازنة للأمور.. ولماذا ينتظر أغلبنا أن يقول له الناس.. ياسلام على مخك البلالنط يابحر العلم يا ترعة المفهومية ؟.. هناك خلل ما فى طريقة تفكيرنا ربما سببه المدرسة أو الإعلام أو هما الاثنان معا.. لقد تكاثرت مؤخرا شخصيات مثل الأونطجى الذى يفتى فى كل شيء بجسارة فائقة.. وصاحب الصوت العالى الذى يتقمص شخصية الأسد المرعب.. وهناك نماذج أخرى مثل المناكف والمجادل السوفسطائى الذى إن سايرته فقدت عقلك وأهلكت دماغك.. فاحذر ممن يستخدمون المغالطات المنطقية ببراعة.. سؤال أخير يستحق منا أن نفكر فيه جيدا.. كيف يحافظ المرء على دماغه سليما؟ ويحظى بعقل راجح ويستطيع الحكم على الأمور بحكمة..الخبراء ينصحونك بالآتي
أولا.. لا تتقبل آراء الآخرين كحقائق لا يمكن مراجعتها.. افرزها.. ثانيا.. تذكر أن النصيحة المجانية مكلفة جدا وأحيانا مهلكة.. ثالثا.. اسأل دوما عن مصادر المعلومات والأقوال وقائليها
وأخيرا.. احترس من هذه الآفات الثلاث.. التعميم والاجتزاء والتشويش.. فهى ثلاثة أمراض قاتلة يجب أن نتخلص منها فورا.
لمزيد من مقالات د. جمال الشاعر رابط دائم: