ظنى أن الأستاذ المحامى الكبير الأشهر لم يحسن الدفاع عن نفسه فى سقطة دنشواى، وهذا دال على قاعدة يدركها أصحاب الباع فى الفكر والحياة والمحاماة، ولكنها فاتت الأستاذ الهلباوى تحت ضغط الآثار المتراكمة المتزايدة لتلك السقطة، والتى زادها تعليقه اللاحق بأن الحضور فى جلسات المحاكمة لم يوجهوا انتقادًا له على ما أبداه من الدفاع «المتين» فى القضية ، فالمتانة ضده وعليه !! .
حاول الهلباوى جاهدًا تبرئة ساحته من جراء قبوله ومرافعته ضد الشهداء من فلاحى دنشواى ، فتارةً يقول فى مذكراته، إن الحكومة اختارته لأنه أكبر المحامين الموجودين سنًّا وأقدميةً ، وهذه ذريعة متهافتة، فرغم أن قانون المحكمة المخصوصة ينص على أنه «يختار البوليس محاميًا لإثبات التهمة» ــ إلاَّ أن هذا النص نص عام ولم يتطلب شروطًا فى المحامى الذى يختاره البوليس لإثبات التهمة ناهيك عن أن التهمة هنا من المحتل ضد أبناء الوطن ، فضلاً عن أن هذا كله لا يلزمه شخصيًّا بأن يقبل هذا الاختيار ، بل له كل الحق ــ بل الواجب ــ فى رفضه.
ويبدو أن الأستاذ الهلباوى شعر بما فى هذه الذريعة من تهافت ، فتداركها يقول إن الإنذار السرى البريطانى إلى مصر الرسمية جاء من بين شروطه أن يجلس فى كرسى الادعاء أكبر محامٍ فى مصر . وهذه بدورها تعلة أكثر تهافتًا ، فلا هو يتلقى أوامر من المحتلين ، ولا مصر الرسمية طالبته بشيء، ومن حقه بل من واجبه الاعتذار إذا طالبته، ولم يرد فى الأخبار أنها طلبت منه ذلك !
وتارةً قال الهلباوى تخفيفًا من وطأة التورط إنه «أعتق مقدمًا خمسة عشر متهمًا من طلب عقوبة الإعدام لهم حسبما طلب قاضى الإحالة»، وليس هذا عذرًا، ولا مدعاة فيه للافتخار !! ومن ثم لا يخفف وطأة ما تورط فيه !!
والأدهى من ذلك كله، أن يحاول الهلباوى مهاجمة الشيخ عبدالعزيز جاويش فى سياق دفاعه عن نفسه فى «دنشواى»، بقالة إن الخصومة تولدت بينه وبين عائلة الشيخ جاويش لوقوفه للدفاع عن خصمهم فى قضية مضاربة، مما حدا بجاويش لأن يفتح النيران عليه فى جريدة «اللواء» حينما وصفه بأنه «جلاد دنشواى» لكونه كسب قضية ضد إخوته .
وفات الهلباوى أن الذى دمغه بأنه «جلاد دنشواى» ــ إنما هو شاعر النيل حافظ إبراهيم فى ماليته الدامية عن الشهداء عام 1906، بينما أول كتابة للشيخ جاويش كانت بعد ذلك بسنتين، وتحديدًا فى مايو 1908.
ومن اللافت أنه لم يتلق مقابلاً لهذه السقطة، بينما حصل كل من بطرس غالى وفتحى زغلول على المقابل لاشتراكهما فى هيئة المحكمة، فصار الأول رئيسًا للنظار، وترقى الثانى إلى وكيل وزارة الحقانية بعد أن كان رئيسًا لمحكمة القاهرة الابتدائية الأهلية، ورغم مآخذ كانت مأخوذة عليه !
ومع أن الأستاذ العقاد لم ينبر للدفاع عن الهلباوى فيما كتبه عنه ونشر فى كتاب «رجال عرفتهم» ( كتاب الهلال أكتوبر 1963) ، إلاَّ أنه أعمق من حللوا شخصيته، ووضع يده على سر انفلاتاته، والتى كان أخطرها انفلاتة دنشواى .
أخطر ما قد يتعرض له المحامى ، وغير المحامى، أن يتيه إعجابًا بنفسه ، والأخطر أن يغره ــ وقد يستهويه ــ الإبانة عن قدرته على الإقناع والبيان، فيأخذه التيه «بالقدرة» عن وجوب مراجعة الموضوع . دائمًا ما أحذر نفسى فى المحاماة من هذا الانسياق، فالموضوع أولى دائمًا بالاعتبار ، والقدرة على البيان تتآكل ، ولكن مواقف الحق والصواب تعيش طويلاً ، وقد يسطرها التاريخ .
أعود إلى الأستاذ العقاد الذى قرأ الهلباوى ونفسيته قراءة أقل ما يقال فيها إنها متعمقة ، أورد أنه يمكنك أن تلخصه فى عبارة واحدة ، هى أنه رحمه الله «ذلاقة اللسان لا تطيق نفسها ولا تريح صاحبها». ومن هذه الذلاقة المتعجلة ، فيما كتب، كان يؤخذ على الهلباوى كل ما هو مأخوذ عليه .
كان فيما يضيف ــ أشهر المحامين بين الفلاحين بلا استثناء ، وكان من آيات شهرته أن النصابين كانوا يساومون طالبى شراء «لسان» الذبيحة، بأنها «والله ولا لسان الهلباوي» .. وسُمِعَت شهرته كاتبًا كما سُمِعت شهرته محاميًا. ثم أدركته آفة التعجل، فتحول فى الوطنية إلى خطة «الاعتدال»، وكان شجاعًا بل هجّامًا، يذكر له الأستاذ العقاد أنهم يوم حوصروا فى دار الجريدة ، وتوالت المخاطر والهتافات العدائية، وأوى البعض خوفًا واحتياطًا إلى حجرات الدار، أبى الهلباوى إلاَّ أن يقتحم الجمع خارجًا من الدار فى إبان الهياج غير مبالٍ بما تلقاه من اللكم والإيذاء! كان رحمه الله هجّامًا لا يتردد، رأى الأستاذ العقاد أنه «نابغة من نوابع عصره لا مراء» .. كان يسلم من كثير مما يؤخذ عليه لولا تلك الحيوية التى أفلقته وباعدت بينه وبين الصبر والاستقرار! ظنى أن طبع الهلباوى الهجّام، والتيه بالذات، دفعاه إلى سقطة دنشواى دون تفكير يحسب الحساب ويختار الموقف، فزل هذه الزلة، رحمه الله وغفر له.
أما بعد، فقد آثرت أن أبدأ بما عليه، لأتفرغ بعد ذلك لما له، وهو كثير محسوب له فى عالم الوطنية والمحاماة.
لمزيد من مقالات رجائى عطية رابط دائم: