رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

حميدة.. مُلهِمة محمود سعيد

فجأة تركنا مصمم الأزياء الفرنسي العالمي الشهير «باكورابان »وهرع إليها كمن مسّه السحر.. غفل تماما عن موقعه في صدر مأدبة الغداء التي أقمناها تحية له في كافيتريا الدور الثاني عشر بمبني الأهرام الرئيس عندما نزل ضيفا علي الأهرام تصحبه عارضاته ليُقدم لنا أحدث خطوطه في حديقة قصر محمد علي بالمنيل..
النداهة التي استدعته لتستحوذ عليه في الحال كانت لوحة المصرية السمراء «ذات العيون العسلية» الـمُطلة من الجدار داخل الإطار.. اللوحة الخالدة للفنان محمود سعيد أنفس مقتنيات الأهرام الفنية.. وقف الفرنسي الـمُلهم مدلَّها تتجول عيناه في ربوع اللوحة وهو ينقل علي الفور خطوطها بسرعة تكشف مدي الاختلاس أكثر من الاقتباس.. وكنت خلفه أنصت لتعبيره بصوته المرتفع «رائعة Formidable ».. ما أجمل تلك الرأس الهرمية كأنها النحت.. الوجه الإخناتوني النبيل وجبهة النور.. الشفاة المكتنزة التي ترسم البسمة من لحظة الميلاد.. منديل الرأس الشفاف الذي يُحدد ويُبين ويصنع الظلال ويكشف خط الفارق والمنحني.. وجنات الورد البارزة في انحدارها علي جانبي الأنف المستقيم لذقن الشموخ والإصرار.. العيون «Formidable».. في حياتي لم أر لها مثيلا في لوحة أو بشر.. عيون تسمِّرك في مكانك.. عيون تسحبك لآخر المدي.. نظرة تأخذك للعميق.. لوادي السحر الشرقي.. تجرِّدك من زيفك وتقرؤك كصفحة مفتوحة.. عيون تحمل إرث المباهج والمحن والحب والألم والحنان والانسجام والغرام والشجن.. عيون واعدة.. عيون تُخرسك وتنطقك.. عيون تقول لك أنت وحدك ولست وحدك.. عيون ترتب شعثك وتنثر رمادك.. عيون عابدة ولاهية.. عيون بحيرة الشمال ونهر الجنوب والمشرقين والدانوب الأزرق وغابة الصنوبر الخضراء والعسل المصفى وصحاري المكسيك ورمال الكرنك.. عيون بها وما بها.. عيون النمرة والدَّعة.. سهام في عيون السمراء تعزل شقراوات الغرب في سجون المنفي..


> حميدة.. ذات العيون العسلية للفنان الخالد محمود سعيد

وينقل الفرنسي تصميم الثوب المصري بكل تفاصيله مُسجلا لازوردية لونه الكاشف الفاضح للقميص التحتي بلمعة الساتان الخصبة، وحتي قطع الحُلىّ لا ينسي باكورابان مكانها ولا شكلها حاسبًا عدد الأساور السبع الذهبية اللاهية حول محيط الرسغ، مدققا في الحجر الكريم الذي يتوسط الخاتم اللوزي في اليد الغضّة الأنثوية، وبعد الكثير من الرغى الفرنسى أتعرف علي نوعية الحجر من أنه العقيق، ويسألني عن سر الأسود الذي يلف أرداف الغادة الدرَّية، فأحكي له عن الملاءة التي تلف بلولبية الجسد اللدن في الحارة المصرية وكورنيش النيل، فيلحُّ علىّ فى إرسال لقطات مختلفة لها تبين طريقة ارتدائها.. ولم يكن هناك قد أقيم بعد متحف لأعمال الفنان الخالد محمود سعيد لأصحب العاشق الفرنسى ليتجول بين بدائع لوحات الأنوثة المصرية فى هالة خصوصيتها وخصوبتها وحيويتها عندما تختلف في جوهرها عن الأنوثة الأوروبية.. ليري المصرية خالصة الشوائب حفيدة نفرتيتى وحميدة وفتحية وبهية الإسكندرانية.. ليري بنت بحري وبنت البلد التى تجمع بين الصفاء الروحي والاشتعال الجسدي والمرح الباسم والحزن المقيم الدائم.. ليري كوكتيل الشرق في كأس نشوة تموج فيها المتناقضات والأضداد والذوبان.. ليرى في عمق الألوان إشارات من الأضواء الخافتة التى تنير الشخصية بداخلها فتشع نورًا ونارًا، كفتيل الزيت يُرسل إشعاعه الراقص في محيطه المظلم فيداعب سطوح الأجسام المستقرة فى كهف النفس ويثير فى الحنايا موجات من الصوفية النبيلة.. ليرى ما لا عين رأت.. ويعود «باكورابان» من جديد للهتاف«Formidable» وابتسم في طريقنا للمائدة بعد برودة الأطباق وأنا مُدركة تمامًا أن حسناء محمود سعيد ستظل مستقرة في ذاكرته كمتلق ولهان لا تبرحها إلي الأبد، وأن في الجعبة خطة جديدة ستتربع فيها المصرية أم عيون عسلية «Formidable» علي عرش خطوط أزياء رابان للموسم القادم..
عندما تركت الفرنسي الذي تسكنه العيون العسلية لم يتركنى مبدعها محمود سعيد فذهبت أفتش عن ابن الذوات الارستقراطى خال الملكة فريدة الابن البكر للباشا محمد سعيد ــ رئيس وزراء مصر ــ الذي ولد في 8 أبريل 1897 في قصر مجاور لمسجد أبي العباس بالإسكندرية، والذي استطاع أن يُبدع فنًا مصريًا دون أن يتقوقع في دائرة الفن الفرعونى، أو أن يكبَّل بزخرفات الفن الإسلامي، أو يجري علي وتيرة الفن القبطي بل استطاع أن يستوعب كل هذا التراث ويتأمل التقاليد الفنية التي ظهرت علي شواطئ الغرب ليتلقى الكثير من المؤثرات منها جميعًا ويُعيد صياغتها بيد مصرية وعين مصرية، وعندما أراد أن يعبِّر عن الشخصية المصرية الحقيقية بعيدًا عن الجمال الارستقراطي المصنوع ذهب يبحث عن الحسن الفطرى عند بنت البلد ليُظهر الحيوية والدفء والبراءة والامتلاء والعطاء والسحر والغموض والاحتواء وبحور العسل ونشوة الانغماس، وتهويمة الحس، وجمر الأجساد، وظلال المتعة، وأوان السرور، ورصانة التلقى وجمال اللقاء، وأصداء ألف ليلة وليلة، وليالى أنس الرشيد وذكاء شهرزاد، والالتصاق بالأرض وشاهق السحاب، وظلال البشرة السمراء بكلوباتها الخفية الناضجة على سخونة الشمس البحرية وفى أتون الأفران الشعبية، ولآلئ الذكريات، وهالات الشموع الأرجوانية، وفيروز الشطآن وزُرقة البحر ودفقات الموج السارى فى أرجاء الكيان، وجبين غارق في الضياء وصدر يأخذ لبحور الإمتاع، وداخل يموج ولا يهدأ له قرار، يضيف ولا يأخذ، يتفاعل ولا يخرس، يحتوى ولا يطرد، يصاحب ويرافق بأناة الهوينى والفهم.. يطرد كل إحساس بالشيخوخة والوهن.. «Formidable»! أذهب إلى نساء محمود سعيد أثرثر مع ذوات الأساور الذهبية وبنات بحري والراقصة والخادمة والراقدة على الوسائد.. حدوتة مصرية في إطارات الخلود.. ألتقي بوالدته التي ظل ملتصقًا بها لحين وفاتها مرتبطًا فى دائرتها لا يُغادرها حتي تتناول عشاءها وتغمض عينها.. تأسرني ابنته «نادية» حبه الكبير التي لم يرزق غيرها، وسجل مراحل نموها في سلسلة متتالية من اللوحات التي تُظهر تطوره الفني.. رسمها طفلة وعروسًا في ثوب زفافها تمسك بباقة الورد تُجاورها حمامة بيضاء... أنتقى أتوحد بالفنان الذى قاد أسلوبه دون أن يعتمد على أحد فى النهاية وكانت مسيرة مشواره فى بداياته من عام 1912م إلي عام 1914 دراسة الرسم من الطبيعة على يد «إميليا دافرنو كازوناتو» الفنانة المتخرجة فى أكاديمية فلورنسا، ومن عام 1916 إلى عام 1918 كانت دراسته علي يد «أرتورو زانييري» الفنان المتخرج في أكاديمية فلورنسا، وعندما حصل علي ليسانس الحقوق وأراد احتراف التصوير أرسله والده إلي باريس فى ربيع عام 1920م ليلتحق بالقسم الحر في أكاديمية «الجراند شومبير» ليدرس الرسم بدون أساتذة، وعاد إلي مصر بعد ستة أشهر عندما عانت الأسرة ضائقة مالية اضطر معها للالتحاق بوظيفة حكومية، فاشتغل بالقضاء المختلط فى مدينة المنصورة وتدرج في الوظائف حتى عُين مستشارًا فى الاستئناف في أبريل 1939، وأوصله عشق الهدوء والتفرغ للفن إلي أن يقدم استقالته أكثر من مرة من منصبه ليُحال إلى المعاش عام 1947.
محمود سعيد الحاصل علي وسام اللجيون دونور الفرنسي وجائزة الدولة التقديرية عام 1960م من جمال عبدالناصر بشيك قدره 2500 جنيه بعد ترشيحه من المجلس الأعلي للفنون برئاسة كمال الدين حسين، وزامله في الجائزة عباس العقاد في عمر الـ73 في الأدب، وفارس الخورى 85 سنة فى العلوم الاجتماعية، وكانت المرة الأولي التي يحصل فيها فنان تشكيلي علي الجائزة في مصر..


محمود سعيد ابن الاسكندرية الذي التحق في عام 1904م بمدرسة فيكتوريا ليتركها عام 1908م للدراسة المنزلية بالقاهرة علي يد أساتذة من خريجى مدرسة القضاء الشرعى وغيرهم ومنهم الشيخ محمد الخضرى، والأستاذ أحمد أمين، حتى حصل على الشهادة الابتدائية عام 1911م وعلى شهادة الكفاءة عام 1912م، وبعدها طالبًا بالمدرسة السعيدية ثم المدرسة العباسية بالاسكندرية التي ظل بها حتى حصوله على شهادة البكالوريا «القسم الأدبى» عام 1915م وكان ترتيبه الثانى ثم مدرسة الحقوق الفرنسية بالقاهرة.. وبعدها باريس..
المستشار الفنان محمود سعيد من ادخل بنت البلد فى صالون ارستقراطية الطبقة الراقية.. من دخل أرجاء الجامع ليصوِّر خشوع المتعبد وتجوَّل خارجه ليُسجل أهل الذِكر والموالد والدراويش، وفي العصاري تنزه بفرشاته علي شط الترعة وكورنيش الإسكندرية، وفي عتمة الليل ذهب ليرسم راقصة المقهى البلدي المتثنية علي صخب الأكف والصاجات وأنفاس النارجيلة في ليالي الأنس والسمر والسهر.. ابن رئيس الوزراء الذي سافر به القطار كرجل قضاء رايح جاى من الإسكندرية للمنصورة فكانت النافذة المتغيرة بسمائها وحقولها ونخيلها ومآذنها وناسها وبيوتها الملتصقة بانسجام كما جاء في قوله: «قاعدة تدردش مع بعضها».. كانت وحيًا وإلهامًا للوحات تعكس سمرة الأرض وحرارة البيئة وتفاعل حياة الإنسان والحيوان وزُرقة السماء الصحو ومرح الطفولة اللاهية ودولاب عمل لا ينتهي ودخان الحياة وأبراج الهواية واستنطاق الماء وحياوات الزرع وكدُّ البشر ونهج القمائن وزرع السدود ومعاول التربة وعرق الرجال، وصغير ضئيل يخض في جلبابه المهلهل كغصن جاف يسحب بحبل من خلفه جاموسة هائلة مستسلمة لزعامته..


ابن الثغر الذي أمضي حياته وفنه بين المتناقضات فمنحه الساخن والبارد والأبيض والأسود والفوق والتحت والشرق والغرب ثراءً وعطاءً لا تمزقًا وشرودًا.. التناقض بين القضاء والفن.. بين التصوف والرسم العاري.. بين المئذنة والقوام السمهري.. بين صحن الجامع وزنقة الكباريه.. بين الصالون والحارة.. بين التلقائية والتصنع.. بين سواريه الكونتيسة والملاءة اللف.. بين الخرز والماس.. بين حصان الفارس وجحش الفلاح.. بين الخلخال والقلادة.. بين البرنيطة والمنديل أبو أوية.. بين المشربية وصالات الفالس.. بين حلقات الذِكر ودوائر الرقص.. بين العيون الزُرق والعيون الكحيلة.. بين الشال الإسباني والطرحة السوداء.. بين ثلوج ستكهولم وشمس ظهيرة مرسى مطروح.. بين جبال لبنان وسهول وادي النيل.. بين صهللة هز البطن وسكون الرُّكع السجود.. بين المفضوح والمستور.. بين الموديل العارى وسيدة القصر.. بين السفر في سلك المناصب إلي نداءات السفر البعيد فى الأعماق.. بين أوروبا ومصر.. بين تلك المتناقضات المتماوجة رَسَم بن سعيد لوحة الرسول عام 1924م ولوحة الدفن 1926 وبعدها بعشرين عامًا رَسَم الجسد العاري في لوحتي الأريكة الخضراء وعلى الوسائد.. وبين التناقض والازدواج رَسَم بنات القصور بألوان رصينة هادئة وأوضاع تقليدية وقور، بينما وضع في أجساد غجرياته جمر النار.. إنه التوتر الخصب الذي أخرج لوحات عديدة أقام لها المعارض الخاصة فى عام 1937م معرضين بمدينة نيويورك أحدهما فى نادى المهندسين المعماريين فى «روكفلر سنتر»، والآخر فى استوديو جلد جالرى، وفي عام 1942 أقامت جماعة الأتيليه بالاسكندرية أول معرض شامل له، وفى عام 1945 أقامت معرضًا لأعماله جماعة الصداقة الفرنسية، وفي عام 1951 قام محمود سعيد بالاشتراك مع جمعية الفنون الجميلة بإقامة معرضه الشامل الثانى فى القاعة الكبرى المستديرة بالجمعية الزراعية، وفي 26 يوليو 1960 أقامت بلدية الاسكندرية ثالث المعارض الشاملة لإنتاجه بمناسبة الاحتفال بأعياد الثورة واشترك الفنان في عدة معارض جماعية منها «صالون محبى الفنون الجميلة بالقاهرة» لمدة خمسة عشر عامًا، والمعارض السنوية بأتيليه الاسكندرية، وبينالى فينيسيا عام 1938 و1950 و1952 والجناح المصرى بمعرض باريس الدولي عام 1937؛ حيث نال ميدالية الشرف، ومعرض مصر فرنسا بمتحف اللوفر بباريس عام 1949، ومعرض اليونسكو للفنانين العرب ببيروت، ومعرض الفن المصرى بالخرطوم عام 1953 ومعرض الربيع بالقاهرة عام 1953، ومعرض موسكو عام 1958، وليس أجدى لمعرفة أعمال الفنان من أقواله وآرائه وأصدائه فى أزمان ومصارحات مختلفة باح بها لكل من كمال الملاخ وحسن عثمان، ورمسيس يونان، واستلهمها من حياته وأعماله الفنان عصمت داوستاشى في كتاب تذكارى قام بتوثيقه عام 1997: «بيننا وبين الفن المصرى القديم روابط عديدة، فنحن نعيش تحت الشمس الساطعة نفسها التي عاش تحتها الفنان المصرى القديم، كما أن أعيننا تقع علي الطبيعة الجغرافية نفسها.. الأرض المنبسطة العريضة والنيل العظيم الذي عاش علي ضفافه الفنان المصري القديم، ولكن الارتباط النهائى بالأشكال الفنية القديمة ينفى وجودنا الحالى وتطورنا الاجتماعى والوعى العالمى الذي تحقق خلال السنوات الطويلة التى تفصلنا عن الفنان القديم».. «الأحداث اليومية ليست من اختصاص الفنان فأعمال المناسبات العاجلة لا يمكن أن تدخل في نطاق الفن الخالد وأنا أحاول في لوحاتي أن أعبِّر عن القيم الخالدة».. «النحت ما هو إلا حذف أجزاء من الكتلة وللأسف فإن فن النحت المعاصر يتبع طريقة الإضافة، ويرجع جمال الكتلة في النحت الهندى والمصرى القديم إلى اتباع الفنان أسلوب الحذف في كتلة الخشب والحجر، ولاستعمال الطين أثره فى اتباع أسلوب الإضافة، ولكننا لو بدأنا النحت بكتلة من الخشب أو الحجر لتوفرت لنا الكتلة الجميلة التي هى أساس فن النحت».. «أفضل موضوعات عبرتُ عنها تلك التي عاشت في عقلي وحسي أطول مدة، ولم أبحث عن الأسلوب الذي أعبر به، وحتى الآن لم أقدم علي لوحة وفي ذهني نظرية معينة لتطبيقها كالتأثيرية أو التكعيبية بالانفعال والشعور تصل إلى أسلوب اللوحة».. «للصعيد منزلة خاصة عندي من الوجهة الفنية رغم أني من مواليد الإسكندرية.. للنيل والآثار والجبال سِحر يفوق عندي سِحر بحرى».. «فى شبابى كنت مهتمًا بالآثار الأمر الذى دفعنى للسفر إلى الأقصر والنوبة في أواخر كل عام لمدة عشرة أيام».. «الطبيعة المصرية التى تفرضها السهول الممتدة من شمال الوادى إلى جنوبه لا تعترضها جبال ولا تحجبها حواجز.. كل شيء مكشوف واضح سهل منبسط والسماء صافية طول العام لا تسمح للغموض بالتسلل للوادى الكبير.. كل شيء يقول لك أنا وأنا على هذا الحال هكذا».. كان محمود سعيد يرى وجوب أن يظل الفن للفن، لأن الفن باق وقيمة أبدية أزلية، وفى نظره أنه يجب ألا يتأثر الفن بأى حال من الأحوال بالظروف الطارئة التى تؤثِّر فيه لأنها عارضة زائلة، أما القيم فهى ثابتة باقية... ويتجلى الهدوء والاستقرار والسكون فى جميع أعمال محمود سعيد.. إنها خالية من الهزات العنيفة والقلاقل العصبية والثورية.. إن فنه يعكس هدوء نفسه واتزان تفكيره واستقرار حياته في محيطه الداخلى، ولعل الصور الوحيدة التي يتجلي فيها العنف والثورة هى صور البحر، فالبحر عنده يعبر عن مدلول التأجج.. مدلول الكد والكفاح والصراع من أجل الحياة، ولقد ركز هذا المعنى فى صور الصيادين الذين يصارعون البحر الهائج من أجل اختطاف لقمة العيش من جوفه العميق.. وإذا ما انبثق السؤال الفنى عن عدم استخدام محمود سعيد فى تصويره غير الألوان الزيتية، فقد أجاب الفنان ذاته على هذا التساؤل بقوله: إنه اتخذ هذه الخامة السهلة طول حياته ليجعلها وسيلته للتعبير.. لقد كان وقت فراغه للعمل الفنى محدودًا للغاية أيام اشتغاله بالقضاء، ولم يكن ضيق وقته يسمح له بتجربة خامات أخرى قد يفشل بالتعبير بها.. لقد كانت مشكلته الأولى هى المضمون الشكلى، وهو أمر لا علاقة له بالمادة إطلاقا، فاللغة الدارجة التى يتكلم بها أفراد المجتمع واحدة، ولكن مشاعر الناس وأفكارهم ستظل مختلفة رغم وحدة اللغة..
الحوارات مع محمود سعيد قليلة نادرة، لكنه أجاب عن السؤال الرصاصة النافذ للأعماق «لماذا ترسم؟!»، بقوله: «لماذا أرسم؟.. سؤال مثل لماذا تأكل؟ ولماذا تشرب؟! ولماذا تعيش؟!.. إذا أنا ما توقفت عن الرسم تصبح الدنيا لا طعم لها والنهار والليل لا طعم لهما.. كأنى ميت.. في ظنى أن أجمل أوقات الحياة هى أوقات الخلق».. وفى حوار نادر له بعد حصوله علي جائزة الدولة التقديرية في عام 1960 قال فى تاريخ الفن وأثره فى ثقافة الفن: «قرأت كثيرًا عن تاريخ الفن فى الكتب والمجلات والجرائد والدوريات الأجنبية.. فى رأيى أن الثقافة عامل مهم في نجاح الفنان، ولكنى عندما أتابع الآن ما يُكتب عن الفن التشكيلى فلا أجد ما يُشبع نهم الفنانين خاصة الناشئين.
محمود سعيد تلميذ مدرسة الفنون الجميلة التي أنشأها الأمير يوسف كمال في 12 مايو 1908 زميل كل من المصورين الرواد أحمد صبري ويوسف كامل ومحمد حسن وراغب عياد ومحمد ناجى ليتميز محمود سعيد عن جميع معاصريه بأن الضوء في لوحاته ليس ضوءا تقليديًا، وإن كان مصدره الشمس أو مجرد شمعة أو مصدرا صناعيا وذلك لكونه يتشكل على هيئة انعكاسات للحزم الضوئية ــ مهما تكن درجة إنارتها ــ لتتجمع ثم تتجزأ وبالتالي تتهجن في ميلاد جديد يسكن وجوه وأجسام وسماوات محمود سعيد بعدما تشبعت بروح الفنان واندمجت فى ذاته وخرجت فى سطوع جديد هو الأول من نوعه.. ولأن ريشة الفنان غالبًا ما تدور حول نموذج أو رمز أو موديل يدور حوله ويبرز خلجاته وتقاسيمه ومنحنياته ورجع صداه على نفسه وفوق مسطح لوحاته ليُظهر هذا الرمز بكامل المساحة أو فى مجرد استعارة من تفاصيله تزور اللوحة فى أى ركن منها، وقد يسافر الفنان بعيدًا كلية عن رمزه ونموذجه وموديله فى العديد من المراحل، لكنه أبدًا يعود إلي منبع وحيه من جديد لتتفجر من بين أصابعه حيوات أخرى، وقد كانت بنت الحارة التى لعبت أدوارها على مسرح لوحاته ممثلة فى كل من «هاجر» و«نبوية» وحميدة» بمثابة مركز للاشعاع لا يخفت وقعه، وقد احتلت ملامح ذلك الثلاثى التى اتسمت بالشرقية في ثوب الشعبية أشهر لوحات محمود سعيد لتقول الموديل السمراء حميدة بطلة لوحة الأهرام «ذات العيون العسلية» التى اقتناها محمد حسنين هيكل لتكون دُرَّة المبنى الجديد فى شارع الجلاء: «جلست كموديل أمام الفنان العظيم وأنا في السادسة عشرة وكانت الجلسة الواحدة تستغرق سبع ساعات يوميًا لا نرتاح فيها أكثر من دقائق، ولا تنتهي اللوحة قبل ثلاثة أسابيع أو أكثر، وكان الأستاذ دقيقًا للغاية في مواعيده جاهزًا بألوانه وفرشاته ينظر لىّ بعيون نافذة لدقائق وبعدها ينكب على لوحته فى هدوء واستغراق حتى وكأن المكان ليس فيه أحد، وكانت أجمل لحظة عندى عندما ينتهى من رسم اللوحة لأرى نفسى أكاد أخرج منها وأنا ست الحُسن والجمال بعدما تمسح ريشته كل آثار التعب والإرهاق وأحمال المشاكل من فوق ملامحى».. وإذا ما كان محمود سعيد قد برع في رسم أجساد النساء فى لوحاته مثل «عروس البحر» و«المستحمات» مستخدمًا ألوانا نحاسية تحاكى لون نضوج لحوم الشواء، فقد لقي الموضوع الدينى لديه اهتمامًا بالغا منذ بدأ رحلة الرسم لحين وفاته وإن أخذته بقوة فكرة الحياة والموت والدفن والآخرة في باكورة حياته، لتشغله بعدها في مراحل نضجه الفني والحياتى فكرة التصوف، من أشهر لوحاته الدينية لوحة «الرسول» فى 1924 ولوحة «الدفن» فى عام 1926، ولوحة «قبور باكوس» برمل الاسكندرية في عام 1927، ولوحة «الصلاة» عام 1934، ولوحة «الذِكر» عام 1936، ولوحة «المصلى» 1941، ولوحة «دعاء المتعطل» عام 1946، ولوحة «المقرئ فى السرادق» فى عام 1960..


> أقواس الصلاة والتصوف على أصداء اللـه أكبر

في تلك اللوحات التاريخية تبرز علاقة الظل والنور في تجسيم عناصر الموضوع وما يعكسه من معنى صوفى مع خلق غنائية لونية تحوِّل اللوحة إلى ما يشبه سجادة شرقية ثرية بمعاني الإيمان والتقوي حتي أن الأعمدة والقناديل وأقواس المصلين المنحنيين فى بعض اللوحات تتمازج وكأنها تُردد «اللـه أكبر» فريشة الفنان المتجلية السابحة في سماوات الصفاء تحمل وازعًا روحانيًا لرجل تربى بالاسكندرية ومسجد الأباصيرى وسيدى تمراز والعدوى وقبور السبع مشايخ، وفى هذه الأجواء عايش محمود سعيد حلقات الذِكر ومسيرات الطرق الصوفية وموالد الأولياء لتسكن ابتهالاتها أذنيه محاطًا بعبق البخور المنبعث فى مشاهد الصالحين ليتسلل الإشعاع من نبض الآذان لنبض العروق لنبض الفرشاة لتنبض اللوحات بروحانية التصوف.


والآن.. عندما يقام مزاد عن فنون الشرق الأوسط غالبًا ما تتجه أنظار محبى اقتناء اللوحات الفنية إلى أعمال محمود سعيد الفنان المصرى العالمى التى ارتفع سعرها للملايين ليُعد كل من في حوزته لوحة بريشة العبقرى المستشار من المسعدين الذين يواجهون أى منزلق ضرائبى بقلوب من حديد، فالخميرة جاهزة ومطلوبة وبشدة والكنز أصبح عالميًا ممثلا في لوحة الفنان السكندرى خاصة لو كانت بطلتها حميدة ــ حرصت «الأهرام» على نقل لوحتها المقتناة للفنان (صاحبة العيون العسلية) لتوضع فى استقبال الرئيس الأسبق حسنى مبارك عند افتتاحه لمطابع قليوب الجديدة، ويومها همستُ للكاتب الراحل أنيس منصور بأن تلك اللوحة أصبحت لا تقدر بثمن فجاء تعقيبه المرح: يعنى حميدة الشغالة أصبحت أهم واحدة فى كل هذه الاحتفالية!! ومن أبرز ما تم بيعه من أعمال محمود سعيد في مختلف المزادات العالمية لوحة «الرجل العجوز» التى باعتها دار «بونهامز» للمزادات في لندن وموضوعها لرجل يُصلى وخلفه نهر النيل، وقد بيعت بمبلغ مليون استرلينى ومقاسها 70 × 80سم وقامت نفس الدار ببيع لوحة «جزيرة سعيدة» لمحمود سعيد المؤرخة بتاريخ 1927 وكانت قد قدمت هدية للفنان اليونانى جان نيكولايدس في عام 1930 وتوارثتها عائلته المقيمة فى أثينا لتباع بـ1٫202٫500 استرلينى أى بما يعادل 13 مليون جنيه مصرى، وتم بيع لوحة «الدراويش» بقيمة 9 ملايين و350 ألف درهم إماراتى (2٫546 مليون دولار) بتاريخ 2010 وقامت بالبيع دار مزادات «كريستيز» العالمية لتسجل وقتها كأغلي لوحة رسمها فنان من الشرق الأوسط فى التاريخ الحديث ويرجع تاريخ رسمها إلى عام 1935، وباعت دار «سوثبى» للمزادات العالمية فى لندن لوحة «عيد الأضحى» التى قُدر ثمنها ما بين 24 إلى 35 ألف استرلينى لكنها بيعت بـ40 ألف استرلينى وكان محمود سعيد قد رسمها في عام 1917 وبلغ مقاسها 14 × 24سم، وهناك لوحة «بعد المطر» وباعتها دار «سوثبى» أيضا بعد عرضها لما بين 300 إلى 400 ألف استرلينى ليصل ثمنها إلي 519 ألف استرلينى وكان الفنان قد رسمها فى عام 1936 ووقع عليها بـM.said.. ومازلتُ أذكر لوحة كبيرة للريف المصرى من أعمال محمود سعيد أطلعنى عليها الراحل الكريم ثروت عكاشة من بين مقتنياته الفنية النادرة، وكان يعلقها خلف باب مكتبه في الدور الثانى من الفيلا التى كان يُقيم فيها بالمعادى.


محمود سعيد الفنان الذي رسم الهوية المصرية وجسّدها ببلاغة لا ترقي إليها أدق عدسات الكاميرات، ولا استطاعتها إمكانيات المفردات اللغوية.. كان ابن الشط السكندرى نسيجًا وحده بين رواد الفن المصرى الحديث.. لوحاته توثيق وتأريخ لحياة مصرية تنضج بروح الأرض والناس كمقابل تشكيلى لسرد نجيب محفوظ فى الثلاثية وكروان طه حسين وزينب هيكل وأزجال بيرم وقصائد رامى والنهر الخالد لعبدالوهاب وسلوا قلبى لأم كلثوم.. مخرج الروائع التشكيلية الذى أزاح الستار عن وجه مصر الجميل الطيب السمح الدمث الفتى الجبار المشرئب الأصيل المعطاء المكافح الأسمر الجبهة كالخمرة فى النور المذاب.. جواهرجى جماليات بنات بحرى والحارة المصرية.. الفنان الـ Formidable.

***


         الدنيــا حــر مـــوت


الجو فاكر نفسه في أوروبا.. حد يقول له يعيش عيشة أهله.
يا مستنى اليوم يعدى من غير ما تكون مخنوق.. يا مستنى الفرخة تبيض بيض مسلوق.
اتنين متزعلهمش: أمك اللى جابتك للدنيا وزوجتك اللى حتخرجك منها..
سمعتى يا أمينة عن النسوان اللى بيقتلوا جوازهم؟!
- اسمى الست أمينة يا سيد
أول ما شوفته قلت هو ده اللي هتسجن عشانه..
فى كندا يرمون الماء في الهواء ويصوِّرونه وهو يصبح ثلجا فى أقل من ثانية من شدة البرد، قريبا سنريهم كيف نرمى الدجاجة مجمدة فى الهواء وتنزل مشوية مع أربعة بيبسى..
اتجوزيه صغير فى السن عشان ماياخدش وقت فى الشوى.
حكمة اليوم: الفلوس اللى بتيجى بالساهل.. بتروح فى الساحل.


لمزيد من مقالات سناء البيسى

رابط دائم: