تناوَل مقال الأسبوع الماضى زيف الصورة الذهنية التى يعمل راشد الغنوشى رئيس حركة النهضة على تصديرها للداخل والخارج معًا،وهى الصورة التى تظهر فيها الحركة مدافعةً عن الديمقراطية ومحترمةً للدستور.
وبعد نشر المقال ناقشنى البعض فى محتواه من خلال إثارة سؤالَين رأيت أنهما جديران بالتعميم لأنهما يعكسان هواجس قطاع لا بأس به من المتعاطفين مع تيارات الإسلام السياسى على اختلاف أنواعها.
أما هذان السؤالان فهما التاليان :هل تتحمل حركة النهضة وحدها المسئولية عن تأزم الوضع السياسى فى تونس منذ ٢٠١١ وحتى الآن، وإذا كانت الإجابة بالنفى فلماذا التركيز على أخطاء النهضة دون غيرها من الفاعلين السياسيين؟ وبفرض أن هناك ملاحظات سلبية على إدارة الغنوشى للحركة فلماذا يتم اختصار الحركة فى شخصه وهو فرد وهى تنظيم؟
فيما يخص تأزم الوضع السياسى التونسى على مدار السنوات العشرالماضية (يسميها البعض العشرية السوداء من وحى العشرية الجزائريةالسوداء فى عقد التسعينيات من القرن الماضى) توجد مجموعة مركّبة من الأسباب التى تفسّر الأزمة السياسية الممتدة،أحد هذه الأسباب هيكلى ويرتبط بنظام الحكم البرلمانى ثم شبه البرلمانى الذى تم الأخذ به ولم يكن يناسب الوضع فى تونس،وذلك لأن تجريف التربة السياسية فى عهدّى الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن على لم يسمح بتبلور أحزاب مدنية قوية يقوم على أكتافها نظام برلمانى مستقر ،وبالتالى فرغم فتح الباب على مصراعيه بعد ثورة الياسمين أمام التعددية الحزبية إلى حد وجود ما يربو على ٢٢٠ حزبًا تونسيًا،إلا أنه لا أثر لهذه الأحزاب على أرض الواقع،فهى إما انشقت على نفسها أو هوت شعبيتها للحضيض.وساعد على تعميق أزمة الحكم فى تونس عاملان،أحدهما هو الغموض فى بعض النصوص الدستورية ما تسبب فى الصراع على الصلاحيات بين السلطات المختلفة،والآخر هو الانتقال المفاجئ فى عام ٢٠١١من نظام شديد المركزية ولا يشبه النظم الرئاسية المتعارَف عليها فى شىء إلى نظام يحوّل الرئيس إلى مجرد رمز أو يحجّم صلاحياته بشدة.وبالإضافة إلى هذا السبب الهيكلى المتعلق بنظام الحكم، فإن انتهازية الطبقة السياسية لعبت دورًا بالغ الأهمية فى إفساد الحياة السياسية،ويكفينا أن نرى كيف انقلب رئيسا الوزراء يوسف الشاهد وهشام المشيشى على رئيسيً الجمهورية الباچى قائد السبسى وقيس سعيد على التوالى بعد صفقة سياسية مع حركة النهضة أبقتهما فى منصبيهما مقابل استخدامهما كمخلب قط ضد موقع رئاسة الجمهورية. وأخيرًا أدلى بعض علماء الاجتماع بدلوهم فى تفسير الأزمة التونسية فى العشرية الأخيرة،إذ اعتبر عالِم الاجتماع التونسى محمود الذوادى أن الشخصية التونسية يميزها «ضعف صداقتها للديمقراطية السليمة»،على حد قوله، وذلك لأنها شخصية مستنفَرة ضد المختلف أو الآخر أو البرّانى،وإذا كان هذا الاستنفار لم يظهر إلا بعد الثورة فلأن نظامّى بورقيبة وبن على قد قمعاه بقوة. إذن هناك أسباب هيكلية وسياسية وربما اجتماعية أيضًا للأزمة التونسية،لكن النهضة تتحمل المسئولية الأساسية عن هذا التأزم بحكم كونها أكبر حزب سياسى فى تونس.فلو تحدثنا عن فساد الطبقة السياسية فلا يجوز أن نتجاهل أن النهضة لعبت دورًا أساسيًا فى عملية الإفساد هذه، فالنهضة التى كانت ترفض التوريث السياسى هى التى استهلت دخولها الساحة السياسية فى ٢٠١١ بتكليف صهر رئيس الحركة رفيق عبد السلام بمنصب وزير الخارجية فى حكومة حمّادى الجبالى،وعندما انتُقد هذا التصرف ردّ الغنوشى بأن علاقته بصهره يجب ألا تحول دون الاستفادة من كفاءته،وهذا منطق يستخدمه كل دعاة التوريث بالمناسبة.
ومن جهة أخرى وضعت النهضة يدها فى يد حزب قلب تونس رغم كل الشبهات التى تحيط بالذمة المالية لرئيسه نبيل القروى،وقد رد لها الجميل بامتناعه هو وحزبه عن التصويت على سحب الثقة من الشيخ راشد كرئيس للبرلمان.ومن جهة ثالثة خذلت حركة النهضة المنصف المرزوقى عندما ترشّح لرئاسة الجمهورية عام ٢٠١٤ وأيّدت الباچى قائد السبسى ضده رغم أن المرزوقى هو الأقرب للنهضة من الناحية الفكرية وفى المقابل فإن السبسى كان أحد أهم ركائز النظام القديم الذى ادعت النهضة أنها ضده.أما عن القول إن النهضة ليست هى الغنوشى،فهذا صحيح لكن هو على رأسها وهو الذى يقود مسيرتها منذ نصف قرن،ورغم كل مظاهر التذمر داخل الحركة خصوصًا من قواعدها الشبابية التى تطالب بتداول السلطة فإن الغنوشى مازال متربعًا على قمة الحركة،وعندما وقّع بعض هؤلاء الشباب قبل أيام عريضة تدعو لحل المكتب التنفيذى والغنوشى على رأسه، فإن الأخير قلّل من وزن هؤلاء واعتبر ماحدث محاولة لضرب الحركة من الداخل،وإن كان قد وعد بإجراء مراجعات داخل الحركة.
بقول آخر هناك درجة كبيرة من التماهى بين مواقف الغنوشى وسياسات الحركة،ولقد أثبت الرجل دائمًا قدرته على محاصرة الأصوات المعارضة بحيث يظل هو صاحب القول الفصل، والآن عندما ننظر إلى الأسماء البارزة التى خرجت من الحركة فى العقد الأخير احتجاجًا على تفرد الغنوشى بعملية اتخاذ القرار سنجد بعض القيادات التاريخية للحركة من حمادى الجبالى إلى عبد الحميد الجلاصى إلى عبد الفتاح مورو، علمًا بأن مورو هو الذى مهّد الطريق أمام الحركة الإسلامية فى تونس وأعّد الملف القانونى لتحصل حركة النهضة على ترخيص العمل الحزبى، لكن هذا لم يشفع لمورو فى شىء وخرج من الحركة بعد تاريخ طويل من العلاقة المتوترة مع الغنوشى، فالنهضة لا تحتمل قيادة برأسين ولا تتسع لشخصية كاريزمية ذات قدرات خطابية واتصالية عالية مثل عبدالفتاح مورو. لكن هل تخّف قبضة الغنوشى على الحركة بعد أزمة قرارات ٢٥ يوليو والترحيب الشعبى الواسع بها؟ علينا أن ننتظر لنرى ماذا سيفعل الغنوشى وهو الزعيم الذى ينتمى لفئة أصحاب الجلود الخشنة كما قال بنفسه،وحتى ذلك الحين ستظل مسئولية النهضة ورئيسها عن تسميم المناخ السياسى التونسى منذ ٢٠١١ هى المسئولية الأكبر .
لمزيد من مقالات د. نيفين مسعد رابط دائم: