رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ُقٌبلة أبى

بقلم ــ شى يوه ون [ترجمة ــ إيمان مجدى مراجعة ــ د. إسراء عبدالسيد]

فى هذا العالم الذى نحياه تتعدد أنواع القُبلات، لكن أحن قُبلة طُبِعت على وجنتى وتركت أثرًا لا أنساه هى قُبلة أبى العظيم الذى أوشك على إتمام الثمانين من عمره.

فى أغسطس من عام 2008، وبعد فترة وجيزة من عودتى إلى بكين عقبْ فترة من العمل خارج البلاد، جاء أبى إلى بكين بعد رحلة من مسقط رأسى فى شمال شرقى الصين، وكان كل ماينشدُ هو مساعدتى فى اصطحاب ابنى الذى كان سيلتحق بالمدرسة عودةً. واليوم ابنى فى السنة الرابعة من المرحلة الابتدائية، لكن لا يزال يحب أن يصطحبه جَدّه من المدرسة كل يوم بعد انتهاء اليوم الدراسى. وعلى هذا النحو، مضت معظم أيام الدراسة من السنة الأول حتى الرابعة من المرحلة الابتدائية، تصاحب الجد والحفيد معأ فى طريق العودة إلى المنزل من المدرسة، وتبادلا المَعِية والرعاية لبعضهما البعض. لا أملك الاستغناء عن مساعدة أبى، ولا الحفيد يستغنى عن رعاية جَدّه، ولا يتخلى الجَدّ عن راحة حفيده. وهكذا عاش ثلاثتنا فى الصين لمدة أربع سنوات الجَدّ، والابن، والحفيد وزوجتى أيضًا كأسرة من أربعة أفراد فى حياةٍ غمرتها السعادة.

لكن فى عالمنا هذا أنّى تجد بيتًا طاولة طعامه مكتملة الأفراد! فقد اضطرنى أمر النقل لعمل جديد لمغادرة بكين التى اعتدت الحياة فيها قبل عيد الربيع، وسافرت عبرالمحيطات، وقطعت الأميال إلى شمال إفريقيا لبدء جولة جديدة من الحياة فى الخارج لمدة أربع سنوات. وقبل أن أرحل ردد أبى لى قائلاً: «ألا تحيا حياةً كريمةً هُنا، ماجدوى السفر إلى الخارج؟».

أنا رجل سافر إلى جميع أنحاء العالم، وأعمل على هذا المنوال منذ أكثر من عشرين عامًا. أقضى معظم وقتى فى الخارج، وغالبًا ما أسافر للخارج فى مَهمْات أثناء فترة عملى فى الصين، وفى كل مرة يقول لى أبي: «ستذهب مرة أخرى!»، ولطالما كنت معتاداً على هذه الكلمات، فقد سمعتها مراراً وأنبرى وكأننى لم أسمعها، لم تعد تعترينى أى ردود أفعال على هذا الأمر تقريبًا، فكنت أرد قائلاً: «نعم». وأتذكر أن أبى فى كل مرة كنت أسافر فيها فى رحلة عمل إلى الخارج كان يصافحنى أيضًا عند باب المنزل، ويوصينى أن انتبه لسلامتى وصحتى، وكنت دائمًا أهمهم بردود معتادٌ عليها.

لكن اختلف الأمر هذا العام، لأننى كنت على سفربعيد، فقال أبى إنه سينزل إلى الدور الأسفل فى المنزل ويودعنى، كان ذلك قبل مغادرتى بأيام.

وشغلتنى الحياة يوماً بعد يوم، وجاءت لحظة الوداع، وفى العاشرة صباحًا من يوم سفرى جاءت السيارة التى ستقلنى إلى المطار أمام المنزل، صافحت أبى بسرعة، وبعد لحظات الوداع استدرت وفتحت باب الغرفة وخرجت ساحبًا حقيبتى. وارتدى أبى معطفه لاحقاً بى إلى الدور الأسفل للمنزل، ولكن فى هذه اللحظة انتابنى شعورغريب، فجأةً لا أود أن يوصلنى أبى إلى الدور الأسفل للمنزل لأننى كُنت قلقًا عليه، فهو مصاب بمرض ضغط الدم العالى، وهو رجل رقيق القلب عواطفه جياشة، يمكن أن ينفعل فى لحظة الوداع وتحدث له عواقب صحية لا يحمد عقباها. لذلك لم أكد أن أخرج من الغرفة حتى استدرت بسرعة وعدت مرة أخرى.

ويا لحسن الحظ! عندما رجعت ارتطمت بأبى، وبالصدفة التقتى جسدانا وتعانقنا سريعا عناقاً يفيض حباً وتأثراً، وألصقنا خدينا ببعضهما على غرار طريقة العرب فى التحية مثلما تحدثنا عنها من قبل، التصق الخد الأيمن لكل منا، ثم الخد الأيسر، ثم الخد الأيمن مرة أخرى. لكن فى اللحظة الأخيرة عند ملامسة خدينا لآخر مرة طبع أبى على وجهى قبلةً،ذُهلت من هول المفاجأةً، فهذه هى أول مرة يُقبلنى أبى أنا الذى أناهز الخمسين من عمرى، كيف لى ألا أتفاجأ مما فعل أبي؟ قبلة الوداع الحنونة هذه أشعرتنى بمحبة أبى ورغبته فى بقائى، وحينها لمحت دموع أبى التى حجبت الرؤية عن عينيه، وسمعت صوته المرتجف، وأحسست بأطراف يده التى تمسك بى ولا تريد مغادرتى.

أنا رجلٌ لا أحب البكاء، لكننى أيضًا رجلٌ مرهفُ الحِسِ، وفى هذه اللحظة تعاملت مع هذه السلوك الإنسانى العظيم لأبى، هذا الشعورالفطرى العميق بين الأب وابنه أزهر فى قلبى كل المودة والحب، ودار فى خُلدى أننى سأقطع بالطائرة عشرات الآلاف من الكيلو مترات للعمل، ولن أعود فى إجازتى السنوية إلا بعد عام على الأقل، وبعد رحيلى ستلحق بى زوجتى وابنى، بينما أبى الذى أوشك على بلوغ التاسعة والسبعين من عمره، وتتدهور صحته مع مرور الأيام، سيعود إلى مسقط رأسه فى شمال شرقى الصين ويعيش وحيدًا.

وعاودت التفكير ثانيةً، ولا أعرف بعد لحظة الوداع هذه، فقد خالجنى شعور ضاق به صدرى،تُرى هل سأتمكن من العيش مع أبى مجدداً بعد انتهاء فترة عملى التى ستدوم أربع سنوات وعودتى إلى الصين مرة أخري؟. ونال منى التفكير، لماذا لا أخاف؟. كيف لا أشتاق؟. لما لا أحزن وأتألم؟ فجأة شعرت بوخزة فى عيناى، واغرورقت بالدموع، ولكن أنا رجلٌ أولًا وأخيرًا، ولا أريد أن يرى أبى دموعى أو ضعفى الإنسانى، لذلك استدرت دون حديث، ورجوت أبى بالعودة إلى الغرفة، وسمحت لزوجتى فقط أن تُوصلنى للدور الأسفل للمنزل. وقد نفعت هذه الحيلة الجيدة حقًا، وغير أبى أيضًا نيته وما كان عازماً عليه وقال: لن أنزل! ثم تمنى لى رحلةً آمنةً.

و لم أستوضح لماذا لم يُصِّر أبى على توديعى للدور الأسفل للمنزل كما كانت نيته؟ لكن على الأقل فقد رحمنى من رؤية حزنه، وأوفر عليّ بضع دقائق من قلقه.

أتمنى لك رحلة آمنة، هذه جُملة قديمة يودعنى بها أبى دائمًا، رنَّت فى أذنى عدة مرات، ربما لاجديد فيها، لكن القُبلة الحنونة التى طبعها والدى على خدى قبل الخروج هذه المرة جعلتنى أتأملها وأستعيدها فى ذاكرتى طوال الرحلة حتى حطت الطائرة رحالها فى باريس.

ما زال خدى يشعر بقبلة أبى، ولا تزال دموع أبى الجياشة الحنونة تظهر فى عينى من حين لآخر. لا أدرى كيف سيكون الحال عند عودتى إلى الصين لقضاء إجازتى السنوية وأرى أبى مرة أخرى. يا للأسف! تلك هى الحياة.

ثمانية تجرى على المرء دوماً، ولابد أن يلقى يوماً الثمانية: سرور وحزن واجتماع وغربة وعسر ويسر ثم سُقم وعافية، وحياة الناس بها أفراح وأطراح، من الصعب أن تحصل على كل شيء. لكن أتمنى بعد مغادرة أبى مدينة بكين الصاخبة أن ينشرح صدره بالاستمتاع بالهواء النقى فى مسقط رأسه، وأن ينعمَ براحةِ البالِ، والعمر المديد والصحة والعافية.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق