سألنى باحث نابه دؤوب أُشرف على أطروحته لنيل درجة الدكتوراه من معهد البحوث والدراسات العربية عما إذا كانت فى مكتبتى نسخة من أى ترجمة لكتاب الفيلسوف الألمانى الكبير إيمانويل كانط عن التنوير. أجبتُه بأننى لست متأكدًا من أن كانط أصدر مقالته المشهورة (جواب عن سؤال ما هو التنوير؟) فى كتاب، أو بالأحرى كُتيب لأن هذه مقالة متوسطة الحجم نُشرت فى مجلة برلين الشهرية عام 1784.
كتب كانط تلك المقالة، التى تضمنت أول شرح متكامل للمقصود بالتنوير فى مرحلة ازداد فيها عدد المفكرين والفلاسفة الذين تبنوه ودعوا إليه، ردًا على سؤال أثاره القس يوهان فريدريش تسولز فى المجلة نفسها على هامش مقالة كتبها فى تفنيد فكرة الزواج المدنى التى كانت جديدة حينذاك. فقد كتب أنه لا يعرف معنى لما يسمعه عن التنوير، وسأل عما يكون تحديدًا. وكان سؤاله مزيجًا من الاستنكار والفضول فى آن معًا.
تصدى كانط للجواب بطريقة مُبسطة بخلاف ما اعتاده فى كتاباته التى مازال دارسوه مختلفين على تفسير بعض ما ورد بها، خاصةً عند ترجمتها من الألمانية إلى الإنجليزية. فالتنوير ببساطة هو تحرر الإنسان من حالة ذهنية يضع نفسه فيها أو يخضع لها بشكل طوعى، فيعجز عن استخدام عقله وقدرته على التفكير والفهم دون مساعدة من غيره. وهذا عجز فسره كانط بافتقاد الشجاعة والقدرة على الاختيار، أو بركون إلى الكسل, أو بارتياح للبقاء تحت سيطرة أوصياء يعرفون كيف يمارسون وصايتهم، ويُوَّرثون تقاليدها فيُعاد إنتاجها عبر اختراع مزيد من الأسباب التى توحى بأن انطلاق الإنسان دونهم يجعله فى خطر.
هذا فيما يتعلق بالوضع الذى يجعل التنوير ضروريًا. أما الطريق إلى هذا التنوير، فقد لخصها فى نهوض من يدركون ضرورته سعيًا إلى الإقناع بأن كل إنسان يستطيع استخدام عقله بشكل مستقل، دون أن ينتابهم اليأس من ضعف الاستجابة لهم. فالتنوير, وفق تجربته, يحدث ببطء، ولا يمضى فى خط مستقيم، ولكنه لا بديل عنه لتحقيق ما سماها أكثر الحريات بداهةً أو براءةً: حرية أن يعقل الإنسان الأمور فى رأسه.
لمزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد رابط دائم: