-
الصحافة مهنة تتجدد ولا تموت.. وحاجتنا إليها كالماء والهواء
مدرسة «الأهرام»، الصحيفة العظيمة، التى انتعشت فى السبعينيات، وكان عنوانها «المؤسس» فى الجيل الثانى، بعد المؤسسين الأوائل اللبنانيين، الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذى انتقل إلى «الأهرام» بين عامى 1959و1974.
هيكل، علمُ كبيرُ فى تاريخ الصحافة المصرية (1923ـ 2016)، فقد كُتب، وسيُكتب، عنه الكثير فى تاريخ ملىء بالحيوية، والتجدد المهنى، والفكرى، والسياسى، إنه تاريخ عريض، سواء كان كاتبا للمقالات (بصراحة) خاصة ، أو الكتب، التى سجلت حِقبة مهمة فى تاريخ مصر، والعرب، بل العالم، أو مؤرخا، وصاحب وثائق (يوليو 1952)، أو رفيق درب الرئيس جمال عبدالناصر، أو صديقه الصدوق، لدرجة أن البعض شبه «ناصر وهيكل» بأنهما وجهان لعملة واحدة.
وفى تاريخ مصر والمصريين، هناك رموز كثيرة، منها صحيفتنا (الأهرام)، التى تحتفل بـمرور (145) عاما على تاريخ تأسيسها.. وعندما طلبت أن أختار موضوعا أشارك فيه فى هذه المناسبة ـ تزاحمت القضايا والموضوعات فى ذهنى، واختلطت،. فـ«الأهرام»، بالنسبة للمصريين، أمة، وبالنسبة لى «وطن» و«أمة» معا، لم أعمل بكامل طاقتى إلا له، ولا أستطيع أن أكتب بحماسة إلا لقرائه، واخترت أن أدون موضوعا، أو «سردية» قد تغيب عن البعض، لأنها لم تُدون، أو تُكتب، بما يكفى، وأصحابها ترّفعوا عن تسجيلها، وانهمكوا فى صناعتها، ولم يهتموا بتاريخهم الشخصى، بقدر اهتمامهم بصياغة صحفهم، ونجاحها، وازدهار تجربتهم، ولو على حساب مصلحتهم الشخصية.
يقولون (ناصر وهيكل)
الخومينى، صاحب ثورة إيران، عندما قابل هيكل، قال له: مستشار ناصر، نسى الصحفى، وقدم السياسى، وصحح له هيكل الموقف: لم أكن مستشارا، لقد كنت صديقا، فهو أكثر من مستشار. عمل هيكل مع ناصر رئيسا للتحرير، ولمجلس إدارة «الأهرام»، ثم وزيرا، ونائب رئيس مجلس وزراء، وعندما كان أحد يريد أن يصل لناصر، فإن طريقه كان هيكل، ومن يعمل مع هيكل، فهو يحصل على حماية ناصر، وجواز عبوره فى جمهورية ناصر، التى امتدت مع الرئيس السادات، خليفته حتى عبور 1973، فهذه الجمهورية، هى التى واجهت نكسة 1967، التى صك اسمها هيكل، ثم هى التى عبرت فى عام 1973، وهى نفسها التى كتب لها الأستاذ هيكل وثيقة هذا النصر العظيم، وصك العبور الكبير باسم هذه الجمهورية، التى رفضت الهزيمة بجسارة، وصحح رفيق ناصر، واختياره، وخليفته السادات، المسار بالعبور العسكرى المبهر، وظل رفيق ناصر، أقصد الأستاذ هيكل، وثيقا، ولصيقا بخليفته طوال تلك الفترة، التى أعقبت رحيل ناصر، وتولِى السادات، بل لعب معه الدور نفسه مع الجمهورية الأولى، التى قامت مع الثورة، ولذلك، فإن تاريخ مصر مكتوب بدقة، وحرفية، منذ قيام ثورة يوليو، بقلم محمد حسنين هيكل، ورفاقه، على صفحات «الأهرام»، حتى خروجه منها بعد 1974، فى إشارة، ليس للقطيعة بين الجمهوريتين (ناصر والسادات)، لكن هناك متغيرات جديدة قد لا يوافق عليها هيكل، أو يتعامل معها بالأسلوب نفسه، الذى تعامل به مع ناصر.
كان هناك الانفتاح الاقتصادى، وهو متغير جديد، وكان هناك فى الأفق مسار آخر للعلاقات العربية، والصراع مع إسرائيل، و«تخطيط فى ذهن السادات خليفة ناصر» لما بعد نصر أكتوبر 1973، وكأنه أراد أن يقول: إن المتغيرات الجديدة سأكون أنا صاحبها وحدى، وإن هيكل، صاحب أسرة عبدالناصر، سوف يترك موقعه بـ»الأهرام» لمرحلة جديدة قد لا يستطيع تحملها هيكل.
لا تستطيع أن تسرد، أو تتكلم، فى المسار المهنى، دون أن تتكلم عن الرؤية، والمسار السياسى، الذى صاحبه من يومه الأول حتى الأخير.
كان هيكل مشغولا، إلى حد كبير، فى القضايا الكبرى، لكنه كان ذكيا، بل حاد الذكاء، فى أنه لابد أن يختار من يقودون معه المهنة الصحفية من داخل «الأهرام»، ولأن هيكل صحفى حتى النخاع، فهو كان قادرا على اختيار من يعمل معه، ويعطيه النتيجة، التى يريدها، باقتدار، واختار قادة لمدرسته الصحفية الفتية، التى صنعت نجاحا مهنيا فاق الوصف، وأطلقوا عليها (صحافة الملايين)، وهذا ما التقطناه. نحن الجيل الذى دخل «الأهرام» فى النصف الثانى من السبعينيات.
بعد رحيل هيكل عن «الأهرام»، كان من الممكن أن ترصد بوضوح أن غياب هيكل عن «الأهرام» لم يكن غيابا لمدرسته الصحفية، التى اختارها، وصاغها بدقة، بعد دخوله «الأهرام»، والتى استمرت بعده، بموافقة أصحاب «الأهرام»، وملاكه، (آل تقلا)، وفى الوقت نفسه، موافقة القادة الجدد للبلاد. ( ناصر، والضباط الأحرار، ومجلس قيادة الثورة).، فقد اختاروا «الأهرام» مقرهم، وعنوانهم المهنى الأثير، والمنبر الصحفى، والإعلامى، والسياسى.
مرت «الأهرام»، بعد هيكل، بمتغيرات كثيرة، وقيادات متتابعة، ولكن من اخترت أن أكتب مسيرتهم، ومهنيتهم، هم الأساتذة الذين كانوا عنوان هيكل، ومركزيته المطلقة فى الإدارة الصحفية، وأساليب إدارته المحكمة، والمحكومة، بفكرة الوطنية المصرية، فى فترة السبعينيات، وطوال الثمانينيات، ولم يستطع الأهراميون الخروج منها، أو من عباءتهم، حتى اليوم، وأن يكون «الأهرام» تعبيرا عنها.
قامات رفيعة فى عالم الصحافة
الأساتذة: عبدالحميد سرايا، رئيس القسم الخارجى، والمسئول عن الديسك المركزى للصحيفة، وصلاح هلال، مؤسس مدرسة التحقيقات الصحفية فى مصر، وفى الأهرام، وممدوح طه، عميد كل الصحفيين الذين يعملون فى جمع الأخبار والسبق الخبرى، حوّل الثلاثة (تحلق الأهرام)، وتم بناء أعمدته المهنية، وأصبح أهرام هيكل يملك أهم الأقسام والبنية التحتية القوية لقيام مؤسسة صحفية عريقة ومتقدمة ومنافسة غربيا، إن لم تكن عالميا، فالثلاثة تاريخهم المهنى متقارب، وأعمارهم واحدة، فهم جيل واحد فى الحياة، وفى الرحيل.
عبدالحميد سرايا (ديسمبر 1920 ورحل فى يوليو 1980)
صلاح هلال (24 ديسمبر 1927 ورحل فى 13 أغسطس 2003)
ممدوح طه (يونيو 1919 ورحل فى ديسمبر 1996)
لم تكن هناك عناوين إلا الثلاثة، مركزية مطلقة، يجمعهم التنافس حول «الأهرام» فقط، لم يكونوا يبحثون عن نجوميتهم، عندما تبحث عن أسمائهم لن تجد لهم موضوعات كثيرة، لكن الثلاثة كانوا يكتبون «الأهرام»، ويخطون أسطورته يوما بعد الآخر، بتفانٍ مطلق، وحب جارف، وحولهم تحلق كل نجوم «الأهرام» من القسم الإخبارى بقيادة ممدوح طه، وظهر القسم الاقتصادى بقيادة إبراهيم نافع وزملائه، وصلاح منتصر (الشئون العربية)، وكذلك الدبلوماسى حمدى فؤاد، والحوادث إبراهيم عمر... وغيرهم، ولكن الأخبار كان لها مهندس واحد، حيث لا تفقد «الأهرام» خبرا واحدا، وإلا تقع تحت طائلة محاكمة ممدوح طه، وهى قاسية جدا، تحمل مقاطعتك،.
وقد تفقد عملك، إذا تكرر أنك تفقد خبرا، أو سبقك له زميل آخر، ولذلك كان «الأهرامى» يحرص على الخبر، لا يعطيه لزوجته، أو لأخيه، وتلك حقيقة، فكثير من الصحفيين فى «الأهرام» كانت زوجاتهم، وأشقاؤهم يعملون فى صحف أخرى، ولكن الخبر ملك «الأهرام» وحده، ولذلك تعلمنا أن من يضيع منه الخبر لا يصلح لمهنة الصحافة، وعليه أن يجد لنفسه مهنة أخرى، ليس لتكتب اسمك على الخبر، ولكن لكى ترى الخبر صادقا ومعبرا فى صحيفتك.
أما الأستاذ صلاح هلال فهو يسمى فى تاريخنا صانع الشربات حتى من الفسيخ، اكتب، وانقل القصة، واتركها للأستاذ هلال، فهو يكتبها، وينشرها، ويخرجها، ويتابعها، ولذلك فالقصة الصحفية، لدى الأستاذ هلال، أسطورة مهنية، وحوله تحلق كل أبناء «الأهرام» العظام (صلاح جلال، ومحمد زايد.. وغيرهما كثيرون، بنوا مدرسة صحفية للتحقيق الصحفى مكتوبة فى «الأهرام»، وتحكى قصة مصر سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا.
أما الأستاذ سرايا، فهو الذى غيّر النظرة إلى الخبر الخاص القادم من التيكرز، ومن وكالات الأنباء، أن تحصل على الخبر، ثم تحوله إلى قصة تصلح للنشر، وتكون محيرة، وكانت قصة «الأهرام» الخبرية، القادمة من الوكالات، تنقلها الوكالات الصحفية، برغم أن مادتها الخام قادمة من الوكالات، أى أصبح محرر الخارجى فى «الأهرام» متخصصا فى مهنته وموضوعه، قادرا على الابتكار والتحليل، وقصته الخبرية تنافس الوكالات، أو الصحف الأجنبية، وكانت مدرسة فخور، أتذكر منها جاكلين خورى، ومحمد حقى، وأحمد أبوشادى، وأيمن الأمير، والأستاذ صباغ.. وغيرهم، وحتى لا أنسى، أصبح لـ«الأهرام» متخصصون فى آسيا، وإفريقيا، وأوروبا.، وذلك قبل إنشاء مراكز الأهرام للدراسات المتخصصة، والتى كانت امتدادا أكثر عمقا لمدرسة الأقسام الخارجية، التى مدت صحافة «الأهرام» بنوع جديد من التحرير الخارجى، الذى انتقل من «الأهرام» إلى الصحف العربية كلها، وأصبحت مدرسة «الأهرام» الخارجية هى المعلم المهنى.
وإذا تعمقنا فى دراسة الخبر مع ممدوح طه، ومصداقية «الأهرام»، ثم التحقيق الصحفى المحلى، والاستقصائى، الذى ظهر مع الأستاذ هلال، ثم مدرسة التحليل الإخبارى، ثم مدرسة ديسك «الأهرام»، لأدركنا كيف أن صحافة الأهرام ضخت فى شرايين مهنة الصحافة، والتحرير الصحفى، باللغة العربية، مدرسة صحفية متكاملة، تستطيع أن تعود فيها إلى هذا الثالوث العبقرى فى تاريخ مهنة الصحافة المصرية، والتى منها انبثقت الأقسام التخصصية الأخرى، ثم الصحافة المتخصصة، التى أعطت للصحافة المصرية عمقها وتميزها، على الصعيد العربى.
وقد نتساءل: لماذا لم يهتم الثلاثة بنجومية أسمائهم، كما نرى الصحفيين بعد هذا التاريخ المهنى، وإلى اليوم؟!. والإجابة: إنهم اهتموا بـ»الأهرام»، ونجوميته، واحتياجات قارئ «الأهرام» للمعلومات والمعرفة، أكثر من اهتمامهم بأسمائهم، أو نجوميتهم، ولكن تاريخ المهنة يحمل لهم الكثير من الاحترام والاعتراف، وقد وجدت كل زملائهم، والذين عملوا معهم- وهم كلهم تقلدوا المناصب الكبرى فى تاريخ المهنة، يقولون جميعا: تعلمنا من الأستاذ عبدالحميد سرايا (صاحب فكرة الأقسام الخارجية إلى كل الصحف) الإيثار والمعرفة، ومن الأستاذ ممدوح طه كيف تحصل على الخبر، وتدقق فى مصداقيته، وأبعاده قبل أن تكتبه، وكل التحقيقات الصحفية المعمقة، وكل الاستقصاءات، والحوارات الصحفية، والقصص المتخصصة- كان وراءها صانع الشربات فى مهنتنا الأستاذ هلال، ونحن كلنا مدينون للثلاثة، وكلنا نبحث عنهم الآن، حتى ننقذ مهنة الصحافة، التى تعانى متغيرات جمة، سواء فى المتلقين من الجمهور، أو وسيلة النشر، بانتشار الفضائيات، والنت... وغيرهما، ولكن كل هذه الوسائل لا تغنى عن المحتوى المتكامل، الذى يحكى القصة كاملة، ويكتب الخبر غير منقوص، والتحليل بعيدا عن الهوى، ويضع صوب عينيه قارئا يريد أن يعرف، ولهذا يجب أن نجعل القارئ هو بطل القصة، هو صاحبها، بل هو النجم الوحيد، وساعتها سيعود البريق، والنجومية لمهنة الصحافة، ونبحث عنها، لأن القصة واحدة، أيا كانت الوسيلة، التى ينقلها المحتوى والمضمون.
هؤلاء الثلاثة (صلاح هلال، وممدوح طه، وعبدالحميد سرايا). صنعوا نجومية «الأهرام» فى الستينيات وحتى الثمانينيات، وكرسوا قيما لمهنة الصحافة لا يمكن أن تضيع، أو تخبو، فتحية لهم فى عيد «الأهرام الـ» 145»، ونقول لهم إن الغرس، الذى وُضع فى لبنة «الأهرام»، خلال تلك الفترة، مازال باقيا، وقادرا على الإشعاع من جديد.
الصحافة مهنة تتجدد، تتغير، ولا تموت، لأنها مهنة الحياة، والحياة متجددة ومتغيرة، فحاجتنا للإعلام والصحافة كحاجتنا للماء والهواء، لأن المعرفة هى التى تحرك العقول، وتصنع كل السلع والخدمات، واحتياجات الإنسان.
هذه السردية، وتلك الحلقات المتواصلة فى تاريخ مهنة الصحافة، و»الأهرام»، هى التى تحفظ لنا بقاءنا، وتضمن تفوقنا فى المنافسة فى كل المجالات.
إن حركة التاريخ مستمرة، وقدرتنا على سرد تاريخنا، ونقاط تميزنا، هى التى تضمن استمرار مسيرتنا بلا انقطاع إلى يومنا هذا، وإلى مستقبلنا القادم، وصاحب السردية الأنسب فى كل مجال سيزدهر بتفوقه فى المنافسة.. هكذا يعمل فى الطبيعة قانون البقاء، ومن ثم نضمن أفضل السرديات، و»الأهرام» عبر تاريخنا يملك أقوى القصص، ولذلك قلت لا يستطيع أحد أن يهمشه أو يضعفه، عبر التاريخ، فهو قادر على أن يعود لقوته، ليظل عملاقا على الدوام.
عبدالحميد سرايا .. أستاذ الديسك والمانشيتات
عبدالحميد سرايا
أما الأستاذ سرايا، فهو مؤسس أقسام الخارجى بـ»الأهرام» وكل الصحف المصرية، وهو كما أطلق عليه الأستاذ هيكل، صاحب فن صحفى، وريادة، فى الصحافة المصرية ككل، خاصة فى عالم الترجمة الصحفية، وكانت أقسام وكتابة التحليل الخبرى للأخبار المقبلة من الخارج كلها برقيات خام ( كُتب على الأستاذ عبدالحميد سرايا أن يعلم المترجمين الصحافة، وأن يكونوا صحفيين محترفين لا مترجمين فقط، ويأخذوا أخبارهم من التيكرز، ووكالات الأنباء، ثم يصيغوا قصصهم الصحفية)، وانتقل ينشئ هذه الأقسام فى كل الصحف المصرية: (الأخبار ـ المصرى القديم- الجمهورية- وكالة أنباء الشرق الأوسط)، ثم استقر فى النهاية بـ»الأهرام» مع هيكل، وتكونت معه خبرة القصة الخبرية المقبلة من الخارج، إلى درجة أن قصتنا الصحفية فى «الأهرام» المتميزة والمتكاملة والجديدة، تنتقل للصحف العالمية على أنها قصة طازجة وكاملة النضج. اكتسب الصحفيون المترجمون مع عبدالحميد سرايا ثقتهم بأنفسهم، فقدموا أنفسهم للعالم (أصحاب رؤى وفكر)، وكانت تلك أسطورة مهنية خالصة للمصريين، فى حد ذاتها، ووصفه الكثيرون بأنه تمصير للقصة الخبرية ذات المنشأ الأجنبى، وهنا كانت موهبة الأستاذ سرايا، الصحفى المصرى، الذى يتقن اللغتين العربية والإنجليزية، بل يتحاور بهما مهنيا، كما كان يصفه الدكتور طه حسين، أديب العربية الأول، الذى قبل أن يكون رئيسا لتحرير الجمهورية، بشرط أن يكون سرايا، المهنى المصرى الصحفى، إلى جواره، ولذلك، لأول مرة، فى تاريخ المهنة، يرأس أديب، هو طه حسين، صحيفة مصرية (الجمهورية)، ويديرها، ويحررها عبدالحميد سرايا معه، ويجتمع اسماهما على ترويسة الصحيفة، وهنا كان هيكل ذكيا، بما يكفى، عندما أطاح حلمى سلام بالصحفيين البارزين بالجمهورية، ونقلهم إلى الوزارات المصرية موظفين، أسبغ هيكل حمايته عليهم، واختار سرايا لـ»الأهرام» ليعمل، ويكمل منظومته المهنية العبقرية، وكلفه بالقسم الخارجى،.وهنا حدثت نهضة لمدرسة جديدة، كان يقول عنها الأستاذ سرايا إنه يذهب للصحيفة، ليس ليعمل، ولكن ليعيش، ويتذوق المهنة، ويتكامل مع زملائه، وكان محبا للعبة الطاولة، فأطلق عليها «قعدة الديسك» من فرط سعادته بها.
ليتكامل العمل المتقن بالحب، فتظهر الأسطورة للقارئ، التى يحبها كأنها (عشرة طاولة)، وهكذا ترجم العمل بالحب، فظهر ديسك «الأهرام». وظهرت أسطورة مانشيتات «الأهرام» العبقرية، وتكونت مدرسة الصياغة المهنية المحكمة التى لا نظير لها فى منطقتنا العربية، ولا تضاهى إلا فى الصحافة العالمية.
إن سرايا مدرسة قامت على أكتاف خريجيها صحافة عربية كثيرة: الأساتذة محمد حقى، الذى ذهب إلى واشنطن مع تلاميذ من الأهرام (أبوشادى، وأيمن الأمير)، فتواصل مع الصحافة الأجنبية هناك، وجعلهم يتحلقون حول مصر السادات فى معركة السلام، ومنهم الأساتذة مكرم محمد أحمد، ومحمود عبدالعزيز محمود، وفهمى هويدى، وحسنى جندى.. وغيرهم كثيرون برعوا فى عالم التحرير والديسك معا، ولم يتفرغوا لبناء أسمائهم، ولكن تفرغوا، وأتقنوا بناء صحيفة الملايين (الأهرام)، التى تحتفل بذكراها الآن. صحافة الملايين، التى تعيش فى وجدان الناس، حتى ولو كانت قد وظفت بعض قدراتها لحماية الأنظمة السياسية، التى عاشت فى ظلها، ولكنها لم تنس، ولم تبخل على قارئها بالمعرفة. إنها المعادلة العبقرية، التى يتقنها المهنيون، والصحفيون الكبار، يجب ألا تغيب الحرفية، وأن تكون أعيننا على القارئ، مهما تكن الظروف، ومهما تستحكم الرقابة، بل حتى إذا ضاقت الحرية، هناك، دائما، متسع للحرفيين، والمهنيين، لأن يصلوا إلى قارئهم، برغم كل الظروف.
صلاح هلال.. «صانع النجوم»
> صلاح هلال
وإذا عدنا إلى الأستاذ صلاح هلال، فقد تفرغ لبناء فلسفة «التحقيقات» الصحفية بكل أشكالها، التى نراها فى عالم اليوم، فهو الأب ذو الهيبة، والوالد الحنون، المتفانى.
أول من يدخل الصحيفة، وآخر من يخرج منها، لا يجلس فى مكتب، يجلس فى الصالة بين المحررين يكتب، ويحرر، ويُخرج التحقيق فى صورته الكاملة.
أتذكر أول من وضع لى عنوانا لموضوعى، أو من نشر اسمى فى الصحيفة (9أبيض)، وأتذكر العنوان «البرطله؟؟؟ مبادئ لا يفلت منه أحد»، عن قصة فى السياحة لرشوة مديرى الفنادق ليجدوا غرفة فى الفندق»، كان يسمونه الأستاذ الكبير «صانع الشربات من الفسيخ»، أى أن الموضوع الصحفى فى يده، أيا كان، فكرته تتحول إلى مادة، مثل الشيكولاتة، تستطيع أن تتذوقه، وتستمتع به فورا.
القصة الإنسانية فى عالمه ازداد بريقها، وتزينت، وأصبحت مادة دسمة، وكانت غير معروفة قبل الأستاذ هلال. كان مدرسة صحفية تسير على قدمين، وأكاديمية إعلامية تنشر فكرها عمليا دون تلقين، ولكن على رءوس الأشهاد.
كان يضع ثقافة القارئ، بل المواطن، الذى يقرأ الصحيفة، فى المقدمة، يبحث عنه، ويخلب ذهنه، يجذبه، ويجعله يتعلق بما يُنشر، وكان يحترم المضمون، أو المحتوى، ويضعه فى الشكل، الذى يجعله حادثا يعيش فى الأذهان، ولا يضيع بمرور الأيام.
أول من أعطى للصورة مكانتها فى عالم الصحافة، وجعلها على نصف صفحة، ثم صفحة، وجعلها تتكلم.
جعل من مدرسة تحقيقات «الأهرام»، على مدى 3 عقود، مدرسة خالدة فى مهنة الصحافة، وكان حظه أنه تنقل بين المؤسسات الصحفية فى مصر: (روزاليوسف ـ الأخبار)، ثم استوى فى «الأهرام».
فكان آخر طبعته المهنية الطازجة، التى مازالت تعيش فى ألباب القراء حتى اليوم، ولم تأخذ حظها من الدراسة الكافية، وإذا أردنا أن نسبر أغوارها، وعمقها، لأستطعنا أن نجددها فى عالم اليوم، حتى تواصل مسيرتها كفن صحفى خالد، يبحث عن القارئ فى كل زمان، وكل عصر، لأنه مربوط بحدث اجتماعى، أو فكرى، يدور حوله، وفى مجتمعه، ويريد أن يعرف كل أبعاده ورؤاه.
كان صلاح هلال لا يخاف، ومجددا، وكلنا مازلنا نتحلق حول تجربته، وخبطاته، التى سلطت الضوء على حرب 1956، والتى نُشرت على صفحتين يوميا لمدة 7 أيام، حتى نعرف معنى الجندى المصرى.
كانت مغامراته المهنية لها عمق، ولم تكن تهوى الإثارة، ولكنها وصلت بالعمق إلى قمة الإثارة، لم يأخذ صلاح هلال حقه من النجومية، لكن (الأهرام) أخذت حقها منها كاملا، وأورث «الأهرام»، النجوم التى خلفها، كلهم أصحاب مدارس: صلاح جلال ـ سناء البيسى ـ عبدالوهاب مطاوع- أمينة شفيق- محمد زايد- عزت السعدنى- بهيرة مختار- محمود مراد- إنجى رشدى- وإحسان بكر» نجوم تتلألأ فى سماء الصحافة، كان وراءها، قطعا، شمس المهنة التى لا تغيب، اسمه صلاح هلال- رحمه الله.
ممدوح طه.. «مدرسة الخبر»
> ممدوح طه
مدرسة «الأهرام» فى عالم الأخبار، فى ذلك الزمان، لا يمكن قياسها بعالم اليوم، بل يجب أن تعود إلى تلك الفترة ، كان الخبر صعبا.. أن يخرج من الوزارة، أو المؤسسة، وكانوا يعتبرون الخبر «سرا» من أسرار الدولة، ولذلك، كان يجب أن يكون هناك معلم للأخبار، يدرب الصحفيين، ويروض الوزراء، والمسئولين، على تسريب أو إخراج الخبر، لم تكن هناك أقسام متخصصة كالاقتصادى، والدبلوماسى، والعسكرى، والعلمى، والفنى... وغيرها، مثل الموجود الآن، كان «المعلم» يجتمع يوميا مع المحررين يدربهم، ويعلمهم كيف يستخرجون الخبر من مصادره، ثم كيف يفندون الخبر ويكشفون أسراره، وهنا تكمن «عبقرية طه»، حيث كان المقنع للطرفين (الصحفيين)، ومصادرهم، ثم تدفق الخبر على «الأهرام»، وكانت أغنى الصحف فى ملكية الخبر، وأسراره، وكان جمهورها ينتظر الخبر منها، ثم يذهب إلى الراديو والتليفزيون، وهنا كانت فرحة الأستاذ طه- رحمه الله ـ ليس فى أن يجد اسمه فى الصحيفة منشورا، بل أن يجد خبرا «ممهورا»، والناس «تتناقله»، وإذا كان الناس فى عالمنا اليوم لا يجدون صعوبة فى إيجاد الخبر، فهناك المتحدثون الرسميون والوزراء كلهم أصبحوا يتذوقون الخبر، وينشرونه، فيجب أن يكون هناك نصيب لهذا الرائد الأول فى تكريس هذه القيمة، التى أعطت القارئ- فى عالمنا اليوم ـ حق الحصول على الخبرـ وإذا أردت أن تعرف قيمة الأستاذ فى عالم الأخبار، فإنهم لم يكونوا يسألون عن مؤهلاته أو سنه أو عمره، فهو يرأس الدكاترة، وأصحاب المؤهلات، ويعمل تحت يده من هو أكبر سنا، لأنه قائد الطابور المُقنِع، تخرج من بين يديه كثيرون ملأوا سماء الصحافة كتابة، ونشرا، وتعليقا، حتى تعرف قيمة المعلم، والأستاذ ممدوح طه، ظهر من بعده نجوم الاقتصاد، والبترول، يتقدمهم إبراهيم نافع، وصلاح منتصر، وفاروق جويدة، ونجوم الدبلوماسية العالمية والعربية، يقودهم حمدى فؤاد، وزكريا نيل، والحوارات يقودهم ـ إبراهيم عمر، وحسين غانم، والثقافة كمال الملاخ، والضمرانى. والعسكرية يقودهم عبده مباشر، ومحمد عبدالمنعم.. وغيرهم كثيرون محمد باشا، ومصطفى البرادعى، وسعيد فريد، وحامد عبدالعزيز، وحسن سلومة، (أسماء سطعت)، وأصبحت كتابة الخبر فنا وحرفة تحت قيادة ممدوح طه، رحمه الله، وجزاه خيرا، فقد كان فاتحة معرفة كبيرة لجمهورالقراء، أن يعرفوا كل ما يدور فى مؤسساتهم ودوائر الحكم فى بلادهم، وهى بداية الوعى وتكوين الرأى العام، فجزاه الله كل خير على ما قدمه لـ»الأهرام»، ولبلاده من ريادة فى هذا المجال الحيوى، وهو يحتاج منا، ومن الدارسين، فى عالم الصحافة، أن يسلطوا الضوء على هذه التجربة التى أصبحت مدرسة حقيقية لالتقاط الأخبار، ونشرها فى مجتمعنا، ليعم الوعى والمعرفة بين الناس، وكان تهمة ممدوح طه أنه قادم من عالم السياسة، فالرجل تفانى فى تجميع الخبر، ونشره، ولم يكن سياسيا فى تفكيره ـ وكانت المجموعة السياسية التى تحلقت حول الرئيس السادات بعد حرب 1973، وأوجدت ثنائية غريبة بين ناصر والسادات، اتهمت الأستاذ طه بأنه من «عيال هيكل»، هذا الرائد الكبير، الذى خدم «الأهرام»، والمهنة، وكان أستاذا ومعلما، أصبح من عيال هيكل .. لأنه تفانى فى التعامل مع رئيسه، وجريدته، ومهنته، وتفرغ لهم فقطـ، ولم يحاول أن يبنى حتى اسمه، ونجوميته، فكان من السهل أن يسقط فريسة للتقاعد بعد عام 1995، ثم يرحل فى ديسمبر 1996، ولكن الريادة التى يحملها الرجل لمهنة الصحافة، ولتلاميذه، الذين تفرغوا لبناء أسمائهم، وقرروا جميعا أن يتلافوا الأثر السلبى، أن يكونوا جنودا مجهولين للمهنة، وتغيرت مهنة الخبر، وتجميعه، ونشره تماما بعد الأستاذ ممدوح طه، ولكنه يظل قيمة كبرى لا يعلو عليها، وأنا شخصيا أتذكره بالكثير من العرفان، فعندما وجدنى خجولا فى اقتحام مهنة الخبر نقلنى إلى الحوادث.
رابط دائم: