أتخيل وجه أديبنا الكبير توفيق الحكيم بيننا الآن وأتساءل كيف كان سيستقبل خبر وجود قطعة أثرية نادرة جدا عمرها 35 ألف عام وضعت فى متحف الحضارة الرائع بالفسطاط , أكاد أسمع من يقول وما علاقة الحكيم بهذا؟ الحقيقة أنه صاحب الغيرة الشديدة على تراثنا وماضينا وأصالتنا فى الشعر والأدب والفكر والثقافة وكان يردد دائما أننا نحتاج إلى حفريات ثقافية تفتش عن آثارنا الأدبية والفكرية لنكتشف مثلا كيف كان الفكر عندنا فى القرن الرابع عشر الميلادى كما نفتش عن آنية هنا وهناك من العصر الفرعونى أو الرومانى ولكن العرب القدماء فى عصور النهضة العربية هم من كتبوا عن الثقافة العربية بشتى أنواعها.
مؤخرا استمعت إلى حوار مهم أجراه مع توفيق الحكيم الراحل فاروق شوشة وهما قامتان عظيمتان كم نفتقدهما فى مصر الآن بعد أن نضب معين الثقافة والفكر بشكل مخيف وإن كان لدينا مفكرون فهم لا يستطيعون أن يتعافوا أو أن يصلوا إلى مرحلة العافية بسبب إهمالنا وتجاهلنا وتنصلنا وتغافلنا عن تاريخ ثقافتنا العربية ؛ فالجامعات عندنا على حد قول الحكيم لا تبحث فى هذا الماضي, هى تبحث فى القائم، اليوم نحن نبنى المعاصرة وأهملنا أصالتنا وليس لدينا مؤلفات تقول لنا كيف كنا فى القرن السابع عشر والثامن عشر مثلا. فى منتصف الثمانينيات مثَل توفيق الحكيم العرب والفكر العربى فى ملتقى عالمى عقدته منظمة اليونسكو كان يبحث فى مستقبل الطاقة والتكنولوجيا فى العالم وكان غريبا أن يحضر مفكر وأديب ملتقى علميا وقد فسر هو ذلك بأننا نحتاج متخصصين فى العلم ولكنهم مفكرون ليستطيعوا التعبير عن علمهم ونقله فى كتاباتهم بأسلوب ولغة سليمة مفهومة وصحيحة وكم من متخصصين الآن فى شتى العلوم لا يستطيعون التعبير بلغة سليمة لأنهم لم يتقنوا لغتهم والسؤال: كم مفكراً الآن حضر مؤتمرا علميا وأبدى رأيه ؟.
إن مثقفينا اليوم والعهدة على الحكيم يستسهلون الحصول على المعلومات من كتاب أوروبى وفى الجامعات نقوم بعمل رسائل الدكتوراة على الأشخاص الأحياء ولا نبحث فى القديم الذى لا نعرف عنه شيئا؛ فى حين أن جامعات أوروبا تمنع أى أبحاث عن أشخاص مازالوا أحياء يريدون لطلبة العلم عندهم التعرف على الماضى وماذا كان فيه؛وكما يبدو لنا أو يراد منا ألا نعرف غيره أن الغرب لا يهتم إلا بالحاضر والمستقبل ولكن هذا كلام غير صحيح فهم تجاوزوا الماضى بعد أن هضموه وغطوا جوانبه وتكفلوا بصيانته وحفظه فى صدورهم وذاكرتهم، فما من متعلم أوروبى إلا ويعرف ويقرأ فى تاريخه الفنى والموسيقى والأدبى والثقافى .
أما نحن فلا يعرف شباب اليوم شيئا عن شعراء ومفكرى وعلماء العشرينيات مثلا، بينما كان جيل العشرينيات والثلاثينيات يعرف الكثير عما قبلهم، كما أنهم بنوا أنفسهم بأنفسهم وتزودوا بالفكر والثقافة واتقنوا لغتهم فقامت النهضة الثقافية فى مصرأما الآن فتجد شعراء يخطئون فى اللغة والنحو وأدباء اليوم دون تكوين أدبى جيد . ماقاله الحكيم ينطبق الآن بشكل كامل متكامل على حالنا اليوم، إننا نتدهور. حضارتنا غير مدروسة ، ماضينا نسيناه وعلى الجامعات أن تتدارك هذا وتدرسه . قد أبدى الحكيم تخوفه على مستقبل مصر الأدبى والفكرى والثقافى بل مستقبل الفكر العربى كله، فنحن نسير خطوة إلى الأمام وخطوات إلى الوراء ؛إن العروبة الحقيقية عروبة روحية فكرية وثقافية والجامعة العربية ماكان لها أن تتأسس سياسيا، لأن السياسة تتغيروتفرق بينما الثقافة توحد .
مات الحكيم ونحن مازلنا نتصارع فى بحر من الحيرة، قطعنا صلتنا بالماضى فتقطعت أوصالنا الفكرية والثقافية ومازالت أمتنا العربية تبنى القطيعة المعرفية بينها وبين تراثها الفكرى ولانكاد نعرف عنه إلا أقل القليل وحتى هذا قرأنا عنه ولم نقرؤه نحن وقد أخطأنا كثيرا يوم نسينا أصولنا وأنكرنا بشكل مجحف هويتنا وحضارتنا وثقافتنا .
أصبحنا أحوج مانكون إلى غواص فكر يغوص فى بحر القلب على دُر المعارف .
لمزيد من مقالات سهيلة نظمى رابط دائم: