كالبحث عن إبرة فى كومة قش، يستعصى الإمساك بدقائق المشهد الإثيوبي، هذه الأيام، ما يجرى أغرب من الخيال, الجراح الإثيوبية تنزف أينما اتجهت، سيولة أمنية وسياسية واقتصادية عارمة؛ يتعمد رئيس الوزراء آبى أحمد قيادة بلاده إلى التفكك والانحلال، ارتكب مذابح فى تيجراي- بمساعدة، وربما بتوجيه، الرئيس الإريترى أسياس أفورقي- استباح أهلها وقتل رجالها واغتصب نساءها؛ الحقيقة الساطعة أن نظام آبى أحمد بات خطرا وجوديا على كيان الدولة الإثيوبية، وإلا كيف نفسر بالمعنى العلمى هذا الإقبال الهائل على العنف ونشر الفوضي.
فى عام 2019 حصل آبى أحمد على جائزة نوبل للسلام، كما حصلت عليها قبله، أون سان سو تشى رئيسة وزراء ميانمار، ثم كشف عن حقيقته باضطهاد شعب تيجراى وغيرهم، كما كشفت تشى عن حقيقتها باضطهاد الروهينجا، الاختلاف الوحيد فى الحالتين، أن العالم لم يصمت أمام المجازر بحق تيجراي، مارس الغرب ضغوطا لوقف الحرب هناك، ومع إصرار جبهة تحرير تيجراى على المقاومة؛ حدث تحول تكتيكي، اكتسحت قوات الجبهة مليشيات الجيش الفيدرالي، واستعادت أراضيها وهزمت الغزاة، بل نقل التجرانيون المواجهات نحو الشمال الشرقى لإثيوبيا، وقطعوا الطريق مع جيبوتي، رئة إثيوبيا ومنفذها على العالم. وأمام اندحار القوات الفيدرالية وعجزها عن القتال، انضمت للمعارك قوات نظامية وغير نظامية من أوروميا وسيداما والصومال وغامبيلا، وغيرها، وهى مناطق لم تشارك فى النزاع من قبل، كما تأججت اشتباكات عرقية بين الأورومو والأمهرة فى إقليم أوروميا المتاخم لأديس أبابا، وفى بنى شنقول، ناهيك عن التوتر الحدودى مع السودان، إلخ؛ تأكل الحرب الأهلية الإثيوبية الأخضر واليابس.
وفقا لتقديرات مجموعة الأزمات الدولية, لن يكون خريف الغضب الإثيوبى موسما واحدا، قد يستمر سنوات، فى بلد متشظ يأكله سوس الشقاق والاختلاف الدامي، وبحسب الأمم المتحدة، يعانى 400 ألف فى تيجراى المجاعة، ويحتاج خمسة ملايين مساعدات عاجلة. تترك ارتدادات الحرب وجائحة كورونا آثارها غائرة على الاقتصاد الإثيوبي، وفى حال فشلت جهود التوصل إلى تسوية للحرب الأهلية، فإن تيجراى قد تلجأ إلى تفعيل المادة 38 من الدستور الإثيوبي، للاستقلال عن البلاد، وهذا سوف يفتح شهية أقاليم أخرى للانفصال.
لا تخذل المدن أحدا، الجهات لا تغير مواقعها، وحدهم البشر يتغيرون، يتلونون، يفرطون، يخونون، ثم يتباكون على الظروف والأقدار، خذل آبى أحمد كل الآمال التصالحية المعقودة عليه، داخليا وخارجيا، شن معارك على شعبه، وحاول جرّ مصر والسودان إلى مربع الخصومة حول سد النهضة, لكن يبدو أن العالم بدأ ينتبه إلى آثام الرجل, بادرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى إلى تحذيره من خطورة سلوكياته، وفرضت إدارة بايدن عقوبات عليه، أما الاتحاد الافريقى الذى تجرى المجازر فى ساحاته الداخلية فإنه تعامى عما يحدث فى إثيوبيا، اختفى شعاره الأثير حلول إفريقية للمشكلات الإفريقية!. بالطبع لم تتخذ أمريكا وأوروبا هذا الموقف لدوافع إنسانية، بقدر ما كان تعبيرا عن القلق من التمدد الصينى والروسى والتركى وبعض الدول الخليجية فى إثيوبيا والقرن الإفريقي، ولعل العقوبات الأمريكية بداية لرفع الغطاء الدولى عن النظام الإثيوبي، أو ما هو أكثر. توقع مايكل روبين زميل معهد أمريكان إنتربرايز المسئول السابق بالبنتاجون والمتخصص فى شئون الشرق الأوسط، حدوث انقلاب وشيك ضد رئيس الوزراء الإثيوبي, نظرا لإخفاقاته الأخيرة. ونقل روبين القول عن راشد عبدي، أحد المحللين فى الشئون الإفريقية: إن السفارات فى أديس أبابا وضعت خطط طوارئ للانتقال إلى نيروبي، تحسبا لتدهور الوضع، فى الأسابيع القليلة المقبلة، وسط مخاوف من انهيار اقتصادى ومالي، لافتا إلى أن احتمالية حدوث انقلاب داخلى واردة جدا, لدرجة أن روبين ناشد البيت الأبيض التفكير من الآن فى كيفية إجلاء الآلاف من الأمريكيين من إثيوبيا، دون الخوض فى عملية قتالية.
يقول الفيلسوف الصينى صن تزو فى كتابه فن الحرب: ليس هناك فن أسمى من القضاء على مقاومة الخصم، دون اللجوء للعنف المسلح. ويضيف: اتّبع هذه النصائح تسيطر على العدو: ثبِّطْ الشجاعة فى بلد الخصم، واحفر تحت موقع المنافس. أما نابليون فقال: إذا رأيت عدوك يدمر نفسه، فلا تقاطعه!.
فى خطاب تسلمه جائزة نوبل للسلام، قال آبى أحمد إن الحرب تجسيد للجحيم، لكن الرجل يبدو حاليا كمن ألقى نفسه فى الجحيم, فهل تصح النبوءة الأمريكية؟!.
[email protected]لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن رابط دائم: