وسط مؤشرات على تراجعه، يواجه الأدب «الساخر»، بمصر والعالم العربى، فى الوقت الحالى، تحديات كثيرة، أبرزها انتشار ثقافة الرموز التعبيرية «الإيموشن» بسخرياتها، والقصص المصورة «الكوميكس»، إذ تقل معها تدريجيا ثقافة السخرية العميقة التى تبدع قصصا جميلة، وتنتشر معها خفة بالغة لهذا النمط من الكتابة، وسيولة يكتب بها الكثيرون بمواقع التواصل الاجتماعى، إذ تنطوى على «فقاعات استظراف»، بعزفها على أوتار المفارقات بحثا عن مقولات مضحكة «إيفيهات» تغوى المتابعين، وتحصد إعجابا عابرا فى كلام عابر، لا يبقى سوى ساعات، حيث تعم السخرية الفضاء الإلكتروني؛ لكن الأدب قليل، والساخر منه شحيح، والواقعان: الحقيقى والافتراضى متداخلان، بينما «السخرية» عنوان المرحلة. طوفان من المفارقات أو المقولات المضحكة «الإفيهات» يمتلئ بها الفضاء، وتنطوى على مبالغة كبيرة فى السخرية، بينما يختفى تحت ركامها أدب وبلاغة جميلة، كنا نستمتع بها قديما، كوجبة متكاملة تشمل نقدا وظُرفا وفكرا ومعلومات مفيدة، كما بدا ذلك فى كتابات كل من: محمود السعدنى ومحمد عفيفى وأنيس منصور وأحمد رجب، وأحمد بهجت ، وجلال عامر، وغيرهم. فالكاتب الساخر لا يوظف الخفة فى وقت الجد بل يستدعى السخرية ليبدع أدبا خارج المألوف، بروح نقدية مرحة، وقدرة على الملاحظة، ورصد للتناقضات، ومحافظة على درجة التوازن، بعيدا عن الابتذال، والإسفاف.
والآن يطرح السؤال نفسه: هل اختفى الأدب الساخر تحت ستار خفة مواقع التواصل الاجتماعى، أم أنه غادر المسرح، وانتشر فى الكتابات الجادة، بعدما صارت ملمحا مهما من كتابات الحداثة، وما بعدها؟
هذا ما يجيب عنه، فى السطور التالية، كوكبة من الكتاب.
الروائى إبراهيم عبد المجيد له رواية مهمة هى «بيت الياسمين»، وبها سخرية مريرة من ظاهرة مقاولى المظاهرات، كما أن له رواية «البلدة الأخرى» التى تضج بالسخرية، لذلك يبدو أنه خبير بالسخرية على الرغم من كونه كاتبا جادا.
جمود مجتمعي
يعتقد عبد المجيد أن الأدب الساخر الحقيقى أصبح نادرا، لأن وسائل التواصل أصبحت أسرع فى الوصول إلى المتلقين، وبها فضاء مفتوح للسخرية لكل الناس، سواء بالكلام أو بالصور المركبة «فوتو شوب». ويشير إلى أحد أسباب ندرة الأدب الساخر، وهو أن المجتمع دخل فى حالة من الجمود الفكرى والانغلاق الذهنى، ولم يعد الكثيرون من الناس يتحملون السخرية من أحد ويعتبرونها إهانة، بل وصل الأمر إلى حد مقاضاة الكاتب، بحجة الحفاظ على القيم..
أدب «صعب»
وفى السياق ذاته يرى الشاعر والكاتب محمد بغدادى أن الأدب الساخر من أنواع الأدب «الصعبة», ولا يستطيع أى شخص قادر على الكتابة أن يقتحم هذا النوع من الأدب، مضيفا أن الكاتب الساخر لكى يحقق نجاحا عليه أن يمتلك ثروة لغوية هائلة وتجارب إنسانية وحياتية واسعة فى الشارع وخاصة بين البسطاء من عامة الناس, فهنا تكمن السخرية على الألسنة, وتحت الجلد، كما أن الكتابة الساخرة تحتاج إلى موهبة واطلاع وسعه بصيرة، حتى يرى الكاتب ما لا يراه المواطن العادى.
سخرية واستظراف
و«لا ينبئك مثل خبير»، فالكاتب والشاعر يسرى حسان من المعروفين بكتاباته الساخرة، لذلك عندما يقول إن مشكلة الأدب الساخر تكمن فى عدم التفرقة بين السخرية و»الاستظراف،» الذى يميل صانعه إلى الافتعال والاستسهال، ولا يكتب عن تجربة، ولا يعى أن السخرية ليست مجرد «إفيه»، بل هى زاوية نظر مختلفة إلى العالم يصوغ الكاتب من خلالها رؤيته.
ويضيف أن الكثيرين ممن يصدرون أنفسهم ككتاب ساخرين، لا يدركون أن الكتابة الساخرة أصعب أنواع الكتابة، وليست أسهلها كما يتصورون، وأنها بالنسبة لمبدعها طريقة حياة، وأنها لا تكتب بالنية، بمعنى أن ينوى الكاتب أن يكون ساخرا فى الليل فيصبح ساخرا فى الصباح, وربما أدت وسائل التواصل الاجتماعى إلى سيولة فى الكتابة التى تظن نفسها ساخرة، وهى كتابة تكون لطيفة أحيانا، لكنها تعبر سريعا لأنها غير قائمة على عمق وتأمل وفلسفة، وهى كتابة مغرية للكثيرين لأنها تصل إلى كثير من المتابعين، وتحصل على إعجاب أو «لايكات» وتعليقات لا حصر لها، حتى إن بعض من «يقترفون» هذه الكتابة يتابعهم الملايين، فالقارئ الآن لا يريد إجهاد نفسه بالتأمل وتقليب الأمور على وجوهها كافة، بل يريد نكتة عابرة فقط، وهو ما نلاحظه مثلا فى مسرحيات خفيفة أقرب إلى «الاسكتشات»المضحكة منها إلى الكوميديا فى معناها العميق.
ويشير حسان إلى أن أغلب الكتابات الآن، مما تصنف تحت بند كتابات ساخرة، لا علاقة لها بالسخرية بل هى أقرب لروح «الاستظراف»، وهذا لا يعنى أننا «عدمنا» الكتاب الساخرين، فلدينا الكثير منهم، ولكن أغلبهم لا يجدون صحيفة أو موقعا يحتفى بكتاباتهم، مقابل الاحتفاء بكتابات تسئ إلى الأدب الساخر أكثر مما تضيف إليه, فمصر لا تخلو من كتاب ساخرين من الوزن الثقيل، لكنهم محجوبون لمصلحة المستظرفين.
تأليف دون معايير
الكاتبة غادة عبدالعال، التى دخلت ميدان الشهرة بكتاب ساخر خفيف هو «عاوزة أتجوز»، ترى من واقع تجربتها أن الكتابة الساخرة كانت فى فترة من الفترات توجها حقيقيا وإبداعا عندما كانت تكتب بمعايير دقيقة وبشكل جاد وحقيقى شأن أى كتابة وأى أدب ، ونجحت مع جمهور القراء، لأنها كانت تمس مشكلات المجتمع، وما يمر به الناس يوميا بشكل ساخر، ما أكسبها جماهيرية كبيرة، ثم حاول بعض الكتاب بعد ذلك ركوب الموجة وتقليد هذا النوع بعد ذلك، ولكن التأليف دون معايير حقيقية أدى إلى نوع من الابتذال، ففقد هذا الأدب جودته، ما أدى إلى ابتعاد القراء عنه، وقلت مبيعات كتبه.
وتعتقد غادة أن وسائل التواصل لها دور فى تراجع الكتابة الساخرة، إذ أصبح القراء فى حالة اكتفاء من «السوشيال ميديا» أو مواقع التواصل الاجتماعى بما تحتويه طول الوقت من جرعة كبيرة من السخرية خاصة «الفيسبوك» الذى أتاح للناس الوصول إلى هذه السخرية، فلم يعودوا فى حاجة إلى البحث عنها فى كتاب كالسابق.
كتابة لن تختفى
من جهته يرى الكاتب الدكتور محمد إبراهيم طه أن غالبية الحياة جهد وعمل وسعى، وأن لحظات الترفيه والتسلية محدودة وربما مختلسة، فمن الطبيعى أن تكون الندرة سمة هذه الكتابات، وأن يظل المشهد كما هو، فلا نتوقع للأدب الساخر أن يختفى، ولا ننتظر أن تصبح الكتابة الأدبية كلها ساخرة. ويعتقد طه أن المشهد سيظل كما هو لأن الكتابة الساخرة لا تقوم بنفسها، إنما تتوهج إذا قدم صاحبها أداء وتجسيدا فى وسائط أخرى؛ مثل المسرح أو السينما أو الدراما، عكس الأدب الجاد، الذى يمكن أن يعيش بين دفتى كتاب.
سلعة غير رائجة
من واقع تجربته فى النشر، يقدم الناشر محمد البعلى، إجابته عن سؤال هذا التحقيق، مؤكدا أن المناخ العام صار غير مرحب بالأدب الساخر، وأن الموضوع أصبح معقدا ومحفوفا بالمخاطر، ويفتقد لمساحة التفهم والتقبل الواسعة من المجتمع التى تسمح بازدهاره. ويشير إلى قلة مبيعات كتب الأدب الساخر حاليا، موضحا ميل جمهور القراء إلى الروايات والكتب المعرفية وفقا لاهتماماتهم وكتب التسلية والروايات الخفيفة، مضيفا أنه لم تعد هناك كتب استثنائية للأدب الساخر تفتح المجال أمام موجة جديدة له، بالإضافة إلى رحيل رموزه وعدم وجود خطوط عريضة يجب اتباعها.
السخرية حاضرة
وعلى عكس الآراء السابقة، يذهب الناقد محمد سليم شوشة، أستاذ الأدب بجامعة الفيوم، إلى أنه ليست هناك ندرة فى الأدب الساخر، كما يتصور بعض المتابعين للأدب او الحياة الثقافية، مؤكدا أن السخرية حاضرة فى الأدب الراهن بنسبة قد تكون ليس لها الغلبة او لا يوجد النوع الساخر بشكل كامل، لكنها مبثوثة ومنتشرة فى مساحات من الادب الجاد او الصارم او غير الساخر، على حد سواء.
ويضيف أن عددا كبيرا من كتاب القصة والرواية المصريين حاليا لديهم مساحة جيدة فى ابداعهم للسخرية.. منهم حسن عبد الموجود، وهو الاكثر مزجا وتوظيفا للسخرية، ويظهر ذلك فى مجموعتيه الاخيرتين «السهو والخطأ» و«حروب فاتنة»، وكذلك لدى الدكتور محمد إبراهيم طه فى مجموعته «الأميرة والرجل من العامة»، ولدى شريف عبد المجيد فى مجموعته «صولو الخليفة»، وفى الرواية أيضا لها مساحتها التى ربما تقل عن القصة فنجدها لدى إبراهيم عبدالمجيد وسهير المصادفة وعزة رشاد. ويقول شوشة إنه ليس صحيحا ان هناك تراجعا فى الأدب الساخر وتصوره، بل إن الأزمة قد تكون فى النقد وغياب فاعليته الاستكشافية، ويشير إلى أنه درس فى رسالته للدكتوراة السخرية والإدب الفكاهى ويدرك صعوبة دراسة الكوميديا والفكاهة، كما هما بالصعوبة نفسها ابداعا.
ويؤكد أن الأدب الساخر ربما استفاد كثيرا من انفتاحه على «الميديا»، ووسائل التواصل الاجتماعى وعالم النكتة و«الكوميكس» وثقافة «البوست» أو المنشور الساخر، موضحا أن المسألة كلها ــ فى تقديره ــ مرتبطة بحالة من الفقر والضحالة فى علم تحليل الخطاب باشكاله وانماطه بشكل علمى وموضوعى وتقنى فى المقام الأول، ذلك لأن كثيرا من النقاد انما ينطلقون من منطلقات أيديولوجية بل رجعية، ولا يفتشون عن خصائص ابداعنا كما يجب، وتلك هى الأزمة الحقيقية، وفق توصيفه.
رابط دائم: