إن معالجة مشكلات التعليم العالي، وهى كثيرة ومعقدة وبعضها متوارث منذ عقود،هى المدخل الرئيس لتصحيح الأوضاع العامة، وتقويم المسار، وترشيد العمل العام،الحكومى والشعبى على حد السواء، فلا إصلاح إلا بإصلاحه، ولا تطور إلا بتطويره، ولا تنمية حقيقية، إلا بتنميته على نحو شامل، كما أن بناء قواعد المستقبل، لا بد أن يقوم عليه، وإلا خسرنا رهان المستقبل، مما يضاعف من حدة الأزمة الحضارية الراهنة، والتى لا سبيل إلى الخروج منها، إلا بإحداث تطوير عميق وشامل ومتكامل للمنظومة التعليمية فى كلياتها، وجميع مستوياتها، ومختلف عناصرها، فهى حجرالأساس لتطوير الفكر، والنهوض بالمجتمع من خلال الارتقاء بالإنسان عقلا ووجدانا، فلا مستقبل للجامعة المصرية ما لم يرتق التعليم ويتطور، ويزدهر، حتى يواكب متغيرات العصر فى جميع الحقول، ويتطلب هذا سد الفجوة المعرفية بالجامعة المصرية وإصلاحها اصلاحا حقيقيا، لا إصلاحا وهميا، يمتد تأثيره إلى أبعد الحدود،ويفيد المجتمع الجامعى قاطبة.
وفى مقاله المهم فى نفس هذه الصفحة تحت عنوان: التعليم والفجوة المعرفية, دعا الاستاذ الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة الى مبادرة جديدة لتأسيس محتوى تعليمى وبحثى جديد فى جميع التخصصات المواكبة للتقدم العالمى الحالى، بما ينعكس على التحديات القومية النوعية التى تواجه مصر اليوم ووضع مرجعية أو ما يطلق عليه فى علوم الادارة Benchmark أفضل عشر جامعات فى العالم، وبصراحة شديدة أكد أهمية أن نعرف ذاتنا على حقيقتها، وعلى الرغم من كل ما تم من تطوير فإنه أعتبره غير كاف، ولابد من استمرار التطوير.
إننا فى حقيقة الأمر لن نستطيع التحدث عن مستقبل التعليم العالى فى مصر دون نظرة تحليلية فى إطار أوسع هو أفق التنمية المستدامة، وعلى سبيل المقارنة، إذااعتبرنا ما حدث فى الجامعات الصينية، وتلك القفزة الهائلة، التى بهرت العالم، فإنها فى رأى الكثيرين تعود إلى الإدارة المتكاملة لاستراتيجية ومنهاج العملية التعليمية،والذى تم التخطيط له بإتقان أخذا فى الاعتبار عدة عناصر منها: الاهتمام بتكوين الكوادر ذات الكفاءة العالية، ودعم الابتكارات فى كل المجالات العلمية بما يخدم التنمية الشاملة والمستدامة واحتياجات المجتمع، والتشجيع على تطبيق نتائج البحث العلمى والاستفادة منها فى مواجهة المشكلات، ودعم الإنتاج القومى والتقدم وتطوير المنتج وتقليل نفقات إنتاجه، ونقل التكنولوجيا المتطورة بما يتماشى مع الاحتياجات الفعلية للمجتمع، وبما يؤدى الى إمكانية تطبيقها. ففى عصر العولمة المعاصرة، تعتبر المعرفة دائمًا سلعة فى جميع أنحاء العالم فى اقتصاد قائم على المعرفة. وفى العقود الأخيرة تضمن النقاش حول العولمة وتدويل التعليم العالى تحديد الأساس المنطقى للتعليم العالى والغرض منه فى سياق عالمى.
لقد كانت مجتمعاتنا السابقة تعتمد إلى حد كبير على المعرفة فى الزراعة والبناء والتصنيع. وبعد أن زادت قدرة الأجهزة الإلكترونية على معالجة تخزين ونقل البيانات بشكل كبير وبأسعار أرخص بكثير. أدى ظهور تقنيات المعلومات والاتصالات (ICT) التى تشمل الإنترنت وأجهزة الكمبيوتر وأنظمة الوسائط المتعددة التفاعلية والاتصالات الرقمية إلى تغيير أنماط حياتنا وحياتنا العملية بشكل كبير، لقد سهلت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كثافة جديدة فى تطبيق المعرفة على النشاط الاقتصادى، وأصبحت العامل المهيمن فى تكوين الثروة وتغيير الاقتصاد والمجتمع.
إن الحراك الأكاديمى الذى طالب به د.الخشت هو علامة مميزة للعصر العالمى، حيث تغيرت الأنظمة الأكاديمية العالمية وتوسعت بفعل قوى العولمة وانتشرت المعارف والمهارات العالمية تدريجيًا فى العالم المترابط، فعلى سبيل المثال، اعتبر إتقان اللغة الإنجليزية واحدة من المهارات التعليمية المهمة عبر الثقافات لتقييم قدرات الطلاب التواصلية العالمية، كما أن الحراك الأكاديمى قد تأصل بعمق فى ثورة التكنولوجيا التى تلعب دورًا مهمًا فى مجال التعليم العالى، مثل التعليم عبر الإنترنت والتعليم عن بعد. بيد أن القوى العالمية تثير قدرًا كبيرًا من التوترات حول التعليم العالى فى جميع أنحاء العالم، مثل تمويله، بما فى ذلك النقاش الدائر حول ما إذا كان التعليم منفعة خاصة أم منفعة عامة. ففى أغلب بلدان شرق آسيا، كما هنا فى مصر، شكل التعليم العالى مسئولية وطنية ونُظر إليه باعتباره منفعة عامة. فالتعليم العالى ليس مسئولاً فقط عن إفادة الناس بل أيضًا عن بناء الإنتاجية الوطنية والاجتماعية،بما يتفق مع المهام والأهداف الوطنية. ومع ذلك، ووفقًا لمفاهيم العولمة والليبرالية الجديدة فإن الضغوط المالية قد نجمت عن التوسع فى التعليم العالى خلال العقدين الماضيين. وباتت فكرة التعليم العالى باعتبارها منفعة عامة عرضة للخطر، ومن هنا توجب التعامل مع الجامعات باعتبارها منفعة خاصة، ويتعين على الطلاب وأسرهم أن يتحملوا العبء المالى التعليمى ويتقاسمونه. وعلى هذا فإن كلاً من العولمة والنزعة الليبرالية الجديدة يسهمان فى الصعود الهائل لخصخصة التعليم العالى العام فى مختلف أنحاء العالم.
لقد كان إعلان 2019 عاما للتعليم، هو البداية لتطوير حقيقى لمنظومة التعليم فى مصر، بما يليق بمكانة مصر وعراقتها التى كانت أول شعلة أضاءت مسيرة الحضارة الانسانية منذ فجر التاريخ. لقد نادى بإحياء ثقافة التعلم بين الطلاب بغرض اكتساب مهارات جديدة بدلاً من الاهتمام بالشهادات فقط، والتركيز على قيم التسامح والتضامن والحوار بين الشباب، ومراجعة المناهج الحالية لتلبية الاحتياجات المستقبلية (الوطنية والدولية)، وتصميم برامج مخصصة لتلائم احتياجات سوق العمل فى المستقبل، وتشجيع التعاون والاندماج بين القطاعات الصناعية والتجارية للحصول على أفكار وخدمات ومنتجات مبتكرة، وتعظيم قيمة الابتكار التعليمى باستخدام المنصات الرقمية، وتنمية قدرات الموارد البشرية ورأس المال الفكرى فى مؤسسات التعليم العالى والبحث العلمى من خلال التدريب والتوجيه السريع، والقضاء على القوالب النمطية وتقديم الدعم، فى مهن العلوم والتكنولوجيا والابتكار، ومشاركة أفضل ممارسات التعليم العالى والبحث العلمى مع دول العالم المتقدم.
لمزيد من مقالات د. حامد عبدالرحيم عيد رابط دائم: