منذ ثلاثينيات القرن العشرين، والقضية الفلسطينية تحظى بحضور خاص ومميز، فى وعى النخبة الحاكمة والشعب والدولة المصرية على حد السواء وحتى الآن، بل تكاد تكون القضية الفلسطينية هى القضية الوحيدة التى وضعت على جدول أعمال الحركة الوطنية المصرية جنبا إلى جنب، وعلى قدم المساواة، مع قضية الجلاء والدستور ووحدة وادى النيل قبل عام 1952.
ولا شك أن استمرار موقف الدولة المصرية من القضية الفلسطينية طوال هذه العقود، رغم اختلاف النظم والعهود والسياسات، وتغير المعطيات الإقليمية والمحلية والدولية، يسمح لنا بالقول إن ثمة نواة صلبة يرتكز عليها هذا الموقف، وأن ثمة عقيدة Doctorine للدولة المصرية إزاء القضية الفلسطينية، واكبت ظهورها وتبلورت ملامحها ومبادئها من خلال تطور الممارسات والمواقف فى كل المحطات الفاصلة فى تاريخ القضية الفلسطينية.
ويستند اختيار مصطلح العقيدة لتفسير موقف الدولة المصرية إزاء القضية الفلسطينية، على استبعاد مصطلح الأيديولوجية سيئ السمعة ويتسع لتأويلات واختلافات عديدة، وذلك تجنبا للالتباس، وكذلك فإن مفهوم «العقيدة» باعتباره مجموعة المبادئ التى توجه سياسات الدولة إزاء قضية ما يناسب الحالة المصرية، باعتبار أن العقيدة التى ترسخت لدى الدولة المصرية إزاء فلسطين هى بمثابة البوصلة التى توجه المواقف والممارسات والسياسات رغم تغير السياسات والزعامات والعهود.
أول هذه المبادئ التى تشكل العقيدة المصرية إزاء القضية الفلسطينية هو اعتبار فلسطين والشام بوابة مصر الشرقية قديما ووسيطا وحديثا، منذ الهكسوس والصليبيين والمغول، وكما كانت هذه البوابة مصدرا للثروات والعدوان، كانت أيضا بوابة للتواصل الحضارى والثقافى، ولا شك أن إقامة ونشأة إسرائيل فى فلسطين يمثل انقطاعا بين مصر وبين فلسطين والشام، وتهديدا ليس فحسب لفلسطين، وإنما أيضا لمصر والعالم العربى ولا يزال هذا المعطى الجغرافى التاريخى يمارس تأثيره رغم ما آلت إليه الأمور من تغير.
أما المبدأ الثانى فيتمثل فى تأكيد عروبة مصر واعتبارها جزءا لا يتجزأ من الأمة العربية، واعتبار قضية فلسطين قضية العرب الأولى، وتبلور السياسة العربية لمصر مع نشوء جامعة الدول العربية، واحتضان مصر لمقرها وتعزيز الروابط التاريخية والجغرافية والثقافية مع فلسطين وتولى مصرى الأمانة العامة لجامعة الدولة العربية هو عبد الخالق حسونة.
ترى العقيدة المصرية أن الصهيونية وإسرائيل مشروع عنصرى واستعلائى وعدواني، يحظى بدعم القوى الغربية التى تواطأت مع الحركة الصهيونية.
أما المبدأ الثالث فى تشكل العقيدة المصرية إزاء فلسطين فيتمثل فى نصرة المظلوم فى الثقافة المصرية فى كل مكوناتها الدينية والحقوقية الموروثة والمكتسبة، والشعب الفلسطينى فى نظر ثقافة المصريين مظلوم فى مواجهة إسرائيل والقوى الاستعمارية، التى تواطأت على قيامها، ومن ثم فإن الشعب الفلسطينى يستحق الدعم والمؤازرة، وأصبحت قضيته قضية رأى عام، ونصرة المظلوم فى الثقافة المصرية فى مواجهة الظالم، وملمح بارز فى ثقافة المصريين عبر العصور، خاصة إذا ما كان المظلوم ينتمى حضاريا وثقافيا وتاريخيا إلى الفضاء الحضارى العربى الإسلامى والتاريخى.
أما المبدأ الرابع الذى تستند إليه الدولة المصرية إزاء القضية الفلسطينية فيتمثل فى التوافق الوطنى حول القضية الفلسطينية، بين الحكومات والأحزاب والمعارضة وتيارات الحياة السياسية المختلفة قبل 1952 وما بعدها، وبعد ثورة الثلاثين من يونيو عام 2013، فهذا التوافق يعزز السياسات المصرية إزاء القضية الفلسطينية ويحافظ على بقاء هذه القضية فى جدول الأعمال المصرى فى الداخل والخارج.
أما المبدأ الخامس فيتمثل فى رفض مصر فى كل العهود فرض الوصاية على القرار الفلسطينى، أو ممثله الشرعى منظمة التحرير الفلسطينية، أو السلطة؛ بدعوى نظرية الأخ الأكبر أو ما دون ذلك من مسميات، بل حرصت مصر على استقلالية القرار الفلسطينى وقبلت الاختلاف والخلاف بين الدولة وبين حركة المقاومة الفلسطينية واستوعبته فى إطار التمييز بين منطق الدولة ومنطق الثورة، فالدولة عليها التزامات، قد لا تحظى بالأهمية ذاتها لدى الثورة الفلسطينية، وعززت الدولة منطق الحوار والتشاور والنصح وتبادل الخبرة دون حساسية ودون إملاء.
فى الحقبة الناصرية حرصت الدولة المصرية على تأكيد مبدأ حرمة الدم الفلسطينى، فلم تتلوث الدولة المصرية بدماء الفلسطينيين كما حدث فى غيرها من البلدان، بل وحرصت مصر على عدم وجود أى ولاءات تنظيمية داخل منظمة التحرير الفلسطينية، تدعم المواقف المصرية وتؤيد السياسات المصرية، وذلك بعكس دول عربية عديدة كان لها داخل المنظمة ولاءات وفصائل تؤيدها.
لم تستثمر مصر القضية الفلسطينية باعتبارها ورقة مساومة مع القوى الغربية، كما تفعل العديد من الدول، ولا كأداة لتعزيز نفوذها وتأثيرها فى الدول الأخرى، وهى المواقف التى تقف وراء استمرار الانقسام وتحول دون الوحدة الفلسطينية، بل نظرت مصر دائما إلى المصلحة العليا للشعب الفلسطينى وتحقيق وحدته دون هوى أو غرض.
الشواهد والوقائع والمواقف التى سجلتها مصر على امتداد هذه العقود، من عمر القضية الفلسطينية، تعزز وجود هذه المبادئ المرشدة للموقف المصرى إزاء القضية الفلسطينية؛ فمصر ساهمت بقوة فى إنشاء جامعة الدول العربية، ومنذ 1939 شغلت القضية الفلسطينية حيزا مهما فى جدول الأعمال المصرى، وفى عام 1937 رفضت مصر قرار التقسيم الذى اقترحته لجنة بيل، وكما رفضت قرار التقسيم الذى أوصت به الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، وبعد 1952 عززت مصر الترابط بين حركة التحرر العالمية والتحرر العربى، وأسهمت بقوة فى إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وجيش فلسطينى، وأمدت حركة المقاومة بالسلاح والخبراء، ووقفت مع المقاومة فى أزماتها فى الأردن ولبنان، حرصت على تضمين القضية الفلسطينية فى معاهدة كامب دافيد، ولعبت أدوار الوساطة من خلال الشراكة الأمريكية المصرية وحرصت على وقف العدوان الإسرائيلى على غزة وبدء إعمار غزة بأيادى ومعدات مصرية فى إطار أشمل لاستئناف التفاوض حول حل الدولتين، وهى الجهود التى تحتاج إلى وقفة فلسطينية جادة من قبل الفصائل الفلسطينية وخاصة حركة حماس وإنهاء الانقسام الذى يعرقل الجهود الدولية والمصرية للسير فى هذا الاتجاه.
لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد رابط دائم: