رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أبو الخير أفندى فى العرض الأول لأوبرا عايدة
نصف قرن على حريق الأوبرا

د . فوزى الشامى ;

فى مشهد مهيب مُروع وحزين، أمام الأعين الباكية الدامية، والقلوب التى يعتصرها الحزن والحسرة والأسى، كانت النيران تنهش أحشاءها، واستحالت ألسنة النيران شموخها إلى كومة من الرماد، فأفنت إرثاً ثقافياً وحضارياً لمائة عام مضت، فصارت دار الأوبرا المصرية العتيقة خاوية على عروشها، فى ست ساعات.

حدث هذا المشهد منذ نصف قرن تماماً عام 1971، ولم يكن المصريون قد أفاقوا بعد من وهلة رحيل جمال عبدالناصر عام 1970. ولأن الله لا يدع أحزان هذا الشعب طويلاً، فقد أنعم عليه بفرحة النصر الكبرى بعد عامين فى 1973، حينما حطم جيشة العظيم أسطورة خط بارليف الحصين، لاستعادة أرضه وعرضه، فى ست ساعات أيضا.

شَيد هذه التحفة المعمارية المحترقة الخديو إسماعيل حفيد الباشا محمد على فى عدة أشهر، وهى تُحتسب من مآثره رغم ما كان عليه من مآخذ سياسية واقتصادية كبيرة، منها أن تجد على الجانب المقابل لدار الأوبرا صرح آخر اسمه صندوق الدين، كانت مهمته استنزاف أقوات وأرزاق الناس.





وقد صادف أن يكون افتتاح دار الأوبرا مواكباً لافتتاح قناة السويس عام 1869، التى حفرها بالسخرة نحو مليون مصرى بسواعدهم فى عشر سنوات، ومات خلال مشقة الحفر نحو 250 الفا من الفلاحين والعمال البسطاء. ولم تكن الدار قد شُيدت من أجل الاحتفال بافتتاح القناة كما يُشاع، ولكن جاءت كمرحلة من مراحل التنوير وبناء الإنسان، إلا أنه يبدو أن الخديو تعجل الانتهاء من بنائها حتى يمكن أن يقام بها هذا الاحتفال.

وفى هذا العام 2021 تمر مائة وخمسون عاماً كاملة، على تقديم أول عرض للأوبرا الأشهر «عايدة» فى 1871، التى بناء على طلب الخديو إسماعيل، كتب قصتها عالم المصريات أوجست مارييت وصاغ أشعارها الإيطالى جيز لانزونى، وأبدع صياغتها الموسيقية وألحانها كبير الأوبرا الإيطالية جيوسبى فيردى، وقام بعمل المناظر وتصميم الديكورات كبار الفنانين الفرنسيين بناء على تصورات مارييت.

لم تكن أوبرا عايدة أول عرض قدم على مسرح هذه الدار، كما لم تكن كُتبت خصيصاً لتقديمها فى مناسبة افتتاح قناة السويس كما يُشاع. والعرض الذى قُدم هو أوبرا «ريجوليتو» من أعمال فيردى. ولكن ما طلبه الخديو من فيردى هو وضع سلام موسيقى، أو تلحين نشيد، يُقدم فى هذه المناسبة. إلا أن فيردى اعتذر، وتم التعاقد معه فى العام التالى 1870، لوضع أوبرا عايدة، فى خلال ستة أشهر لتقديمها فى موسم العام نفسه، إلا أن نشوب الحرب الفرنسية الألمانية «أو الفرنسية البروسية» وحصار باريس حال دون تحقيق ذلك، لأن المناظر والأزياء وكل ما يحتاجه العرض، كانت فى باريس. ولذلك قُدمت فى العام التالى.

فن الأوبرا هو الفن المسرحى العجيب الغريب الذى يجمع كل جوانب الفنون من تمثيل وغناء وموسيقى ومجموعات من الكورال وراقصى الباليه والديكورات والمناظر الثرية المبهرة والإضاءة الأخاذة الفجة منها أو الخافتة. كل ذلك فى إطار حكاية غريبة أسطورية مأساوية فى غالب الأحيان. وقد نما هذا الفن وبلغ تألقة وتوهجه فى القرن التاسع عشر، على يد مؤلفين مهمين، منهم ريتشارد فاجنر فى المانيا وجيوسبى فيردى فى إيطاليا، منشأ فن الأوبرا منذ بدايات القرن السابع عشر.

فى نهاية العشرينيات من القرن الماضى، رأى الزعيم الإيطالى موسولينى، ضرورة أن تقدم أوبرا عايدة خارج دور الأوبرا لتعرض وسط آثار روما للايحاء بالأجواء القديمة التى تدور فيها الأحداث. ومنذ ذلك الوقت يتوافد المشاهدون من كل الأنحاء لمشاهدة عايدة وغيرها على مسرح حمامات الإمبراطور الرومانى «كاراكالا» وهو من أصول بونيقية «ليبية أمازيغية» واسمه الحقيقى ماركوس أورليوس. ولد كاراكالا فى لوكدنوم «ليون حالياً» فى فرنسا، من أم سورية من مدينة حمص، هى جوليا دومنا، التى كان لها نفوذ وقوة سلطة فى الامبراطورية الرومانية. وبعد عدة سنوات بدأت شهرة مدينة فيرونا شمال إيطاليا عالمياً، لتقديمها أوبرا عايدة سنوياً فى الهواء الطلق فى ساحة المدينة التى اختارها شكسبير لأحداث روايته «روميو وجوليت». ولكن يبدو أن مصر، قد سبقت إيطاليا فى هذا فقدمت عايدة بين أحضان أهرامات الجيزة عام 1912 قبل نشوب الحرب العالمية الأولى فى 1914.

ملخص حكاية عايدة، أن الحدود الجنوبية لمصر فى مرحلة من تاريخها القديم كانت معرضة لغزوات الأعداء من الأحباش، وتم اختيار راداميس الجندى المصرى فى مهمة قيادة الجيش للدفاع عن الأرض، وبعد المعركة يعود منتصراً، وفى انتظاره للإحتفال بهذا النصر بقصر الملك، الحكام والكهنة والضباط والرعية، ومن بينهم الأميرة أمنيريس التى تحبه متمنية الزواج منه ليعتليا معاً عرش مصر، ووصيفتها الأسيرة عايدة التى تم أسرها فى معركة سابقة والتى أحبها راداميس، وفقد بسببها كل انتصاراته ومجده الكبير. ومن بين الأسرى الذين أحضرهم معه ملكهم أموناصرو متنكرا ليبحث عن ابنته عايدة، فوجدها وعرف قصة حبها، فيدفعها لإغراء راداميس للهروب والفرار إلى موطنها.

وأثناء حوارها مع راداميس، استدرجته ليبوح لها باسم الطريق الذى سوف يسلكه الجيش المصرى فى مواجهته القادمة لجيش بلادها. وهنا يتورط راداميس ويقع فريسة للمؤامرة، ويتم اكتشاف أمره، ويُحكم عليه بالدفن حياً. وقبل تنفيذ الحكم تسللت عايدة وسبقته إلى المقبرة كى تلقى معه نفس المصير.

من الجانب الفنى الإبداعى، فهذا العمل الذى يمتزج فيه الواقع بالخيال، هو عمل كبير ضخم وثرى وأخاذ. يُبهر المشاهدين ويصل بهم الى أعلى درجات الإشباع من القسوة والتأسى والحزن، هو عمل متقن ومترابط وشديد القوة والتأثير، ينتهى بمأساة مفجعة. ومن ناحية القصة، فالخيط الدرامى المتعلق بالخيانة فى نسيج الحكاية، كان من الممكن أن يصل المؤلف إلى المشهد المأساوى الأخير من خلال خيط أخر بعيداً عن الخيانة، التى أعتبرها سقطة كبيرة، حتى وإن لم يكن راداميس يدركها ويعيها، لأنه جندى مصرى فى الجيش المصرى. وكما يبدو أن الخديو إسماعيل لم يتدخل فى تغيير خيط الخيانة فى القصة التى كتبها مارييت فى أربع صفحات.

ومن دواعى الفخر أنه فى العرض الأول التاريخى، عزف مارش النصر الشهير لفيردى عند عودة راداميس منتصراً، مجموعة من عازفى البوق «الترومبيت الطويل الذى صُنع خصيصاً وعُرف بترومبيت عايدة»، وهم من أبناء الموسيقات العسكرية فى الجيش المصرى وعلى رأسهم أبو الخير أفندى.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق