هل كانت مصر ضحية لعداوة مجلس الأمن فى سد النهضة ؟ على السطح نعم، مادام هذا المجلس لم يصدر قرارا يؤيد حق مصر والسودان ويندد صراحة بالسلوك الاثيوبى المتعنت. التعمق يبين على العكس أن سلوك المجلس لا يرتبط بعداوة ضد مصر بل يعكس وضعية بعض الأعضاء الدائمين أصحاب الفيتو وكذلك إشكالية المنظمة الدولية نفسها من هنا أهمية التعرف على الحقائق ـ نعم الحقائق ـ لتجنب تصورات خاطئة وفخ معارك غير مفيدة بل تخطيط المستقبل جيدا، لأن هذه الأزمة ستستمر معنا. من بين أصحاب الفيتو الخمسة، أظهر ثلاثة على الأقل توجها سلبيا ضد مشروع القرار التونسى الذى يؤيد الموقف المصرى السوداني. وهؤلاء الأعضاء الدائمون الثلاثة هم الصين وروسيا وفرنسا، وهى دول صديقة لمصر وتربطها بها علاقات تعاون قوية، ومن هنا الدهشة فى وسائل الاعلام المصرى والعربى وحتى الدعوة للانتقام، خاصة ضد روسيا التى كان مندوبها فى مجلس الأمن الأكثر صراحة ضد الموقف المصرى- السودانى وبالتالى تم تفسيره على أنه محاباة لاثيوبيا بل اختيار التعاون الاستراتيجى مع هذا البلد بدلا من مصر.
ولنبدأ بروسيا والصين لتوضيح أن موقفهما فى مجلس الأمن لا يرتبط بالعلاقات مع مصر بل بوضعية هاتين الدولتين كدولتى منبع لعدة أنهار فى أوروبا وآسيا وبالتالى حساسية علاقتهما مع الدول الأوروبية والآسيوية المجاورة التى تشترك معهما فى هذه الأنهار والتى تعبر حدودها أو تصب فيها. باختصار تتخوف موسكو وبكين من تدخل مؤسسات خارجية فى هذه الأنهار وتدويل الموضوع، ولذلك تخشى أن يكون عرض موضوع سد النهضة على مجلس الأمن ثم التصويت عليه سابقة قد تشجع بعض جيرانها على تكرار المحاولة مع الأنهار التى تنبع من روسيا أو الصين ولتوضيح هذا الموقف الروسى الصيني، لنفترض أن هناك مشكلة تتعلق بقناة بنما مثلا، وتم عرض الشكوى على مجلس الأمن وكانت مصر فى هذه الآونة تتمتع بعضويته، فلن يكون أساس تصويتها أولا وأخيرا علاقتها مع بنما أو هذه الدولة أو تلك ، بل أساسيات علاقتها مع قناة السويس وأى تأثير محتمل فى هذا الصدد على سيادتها. هذه هى أولوية التفكير الروسى والصيني، ومنذ وقت طويل قبل بلوغ مشكلة سد النهضة مرحلة الأزمة، كما يتضح من اعتراض الدولتين على اتفاقية سنة 1917 للأنهار الدولية، التى تفضل الدولتان تسمية هذه الأنهار «العابرة للحدود» .. باختصار، وكما هو الحال فى قناة السويس بالنسبة لمصر، موقف الصين وروسيا مرتبط بالجغرافيا ووضعهما الاستراتيجى العام، قبل أن يكون انعكاسا لعلاقتهما بدول نهر النيل. هذه حقيقة موجودة مسبقا، ولذلك يجب على القاهرة ألا تتصور موقفا معاديا لمصر من هاتين الدولتين وفتح جبهة جديدة فى هذه الآونة الخطيرة.
موقف مهم آخر من عضو دائم أيضا، فرنسا، التى ترأس دورة المجلس الحالية، فقد تحفظ مندوبها على عرض الموضوع على مجلس الأمن على أساس أنه لا يدخل كلية فى اختصاصاته التى تركز على موضوعات «تعرض السلم والأمن الدوليين للخطر»، كما يقول بذلك ميثاق الأمم المتحدة. ما يقصده المندوب الفرنسى هو وجود التهديدات العسكرية، مع أن دراسات الأمن حاليا تتكلم عن اتساع رقعة التهديدات وتعميقها، وذلك قبل وقت طويل من غزوة كورونا وكذلك غضب الطبيعة كما يحدث فى الحرائق فى أمريكا الشمالية وكندا جراء ارتفاع درجات الحرارة إلى ما يقارب خمسين درجة مئوية والتهام ما يعادل آلاف الأفدنة من أشجار ومساكن، ثم هناك أيضا الفيضانات فى أوروبا وآسيا ونتائجها فى الخسائر البشرية والمادية المهولة. باختصار التهديدات ضد السلم والأمن ليست عسكرية فقط، كما نرى بالطبع فى مشكلة المياه التى هى خطر وجودى للعديد من الدول سيزداد تأثيرها أكثر وأكثر فى المستقبل، ولذلك فإن معظم دراسات الأمن لا تقتصر حاليا على الحماية من التهديد العسكري، وتتكلم عن الأمان الإنسانى human securityحيث تكون الحروب القادمة حروب مياه.
فى الحقيقة التعريف الضيق للأمن الذى عكسه كلام المندوب الفرنسى يشير إلى مشكلة أكبر تتعلق بالمؤسسات الدولية ونظام الأمم المتحدة ككل. ألا وهو جمود هذه المنظمة الدولية وعدم تجاوبها مع عالم يختلف كثيرا عن العالم الذى تأسست فيه منذ 76 عاما. ويكفى أن نتذكر أن أعضاء الأمم المتحدة عند التأسيس فى 1945 لم يتجاوزوا 51 عضوا، بينما هم الآن 198 عضوا، أى نحو أربعة أضعاف الدول المؤسسة، كما أن الغالبية لا تأتى من أوروبا أو أمريكا الشمالية بل من دول الجنوب العالمى التى حازت استقلالها بعد 1945 وترى حقا أن المنظمة تعكس الفكر القديم وهيمنة الماضى كما هو الحال فى ممارسة الفيتو الذى يسمح لدولة واحدة بأن تلغى رأى الأغلبية. وقد أثار الأمناء العامون السابقون وكذلك الحالون هذه الإشكالية التى أطلق عليها بطرس غالى «دمقرطة المنظمة الدولية».
التذكير بهذه الحقائق قد يشجع مصر على تنشيط محاولاتها السابقة للعمل مع آخرين لإصلاح الأمم المتحدة وبالتالى إبراز دورها المحورى إقليميا وعالميا وسماع صوتها، لأن الصوت المسموع فى القضايا العالمية لا يمكن تجاهل مصالحه.
لمزيد من مقالات د. بهجت قرنى رابط دائم: