رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الاختلالات المستجدة فى النظام الرأسمالى المعاصر

من المعروف أن النظام الرأسمالى المعاصر يتضمن فجوات واختلالات تؤدى إلى انهيارات دورية بفعل القوى الساعية للحصول على نصيب من الثروة والقيمة التى تصنعها القوى المنتجة، دون جهد أو تضحية. وتتولد هذه الاختلالات من عمليات جديدة لتراكم الثروة من خلال أنماط جديدة من الشركات والمؤسسات، ومن عمليات المضاربة والتلاعب فى الأسواق (المالية والعقارية على الأخص) وكذلك ممارسات الفساد من قبل المديرين التنفيذيين فى الشركات والمؤسسات المالية وقطاع الشركات المساهمة عامة.

وقد أسهمت هذه الأنشطة والممارسات فى الارتفاعات المتلاحقة لمعدل التضخم فى الأسعار بحكم أن الثروات المتحققة للكيانات والنخب الجديدة وللمضاربين والمتلاعبين وأباطرة الفساد والتجارة غير المشروعة لا يقابلها إنتاج أو قيمة حقيقية مضافة. وشهد العالم ارتفاعات جنونية فى الأسعار تضافرت مع العوامل السابقة نتاجا لتخلى النظام النقدى فى الدول عن ضرورة وجود غطاء ذهب للعملات الورقية التى تصدرها الدولة.وتمخض هذا عن مرتع للتوسع شبه المنفلت للدول فى إصدار عملات ورقية دون غطاء والاقتراض لمواجهة تضخم مصروفاتها وللتغلب على عجز موازناتها. وقد بلغ حجم الاقتراض العالمى 290 تريليون دولار وهو يمثل 360% من الناتج المحلى الإجمالى العالمى الذى لا يتعدى 80 تريليونا. ونتاجا لهذا صار تضخم الاسعار نتاجا للتوسع فى إصدار العملات الورقية وللتوسع فى الاقتراض صفة ملازمة لعجز الموازنات العامة فى هذه الدول، إضافة إلى كونه ساحة للتربح والإثراء من أعمال المضاربات فى أغلب الأسواق. ولم يقتصر هذا على الدول قليلة الحنكة فى إدارة مالياتها العامة، وإنما أصبح أيضا سمة للسياسات المالية والنقدية فى أعتى الدول الرأسمالية. فالولايات المتحدة الأمريكية بلغ حجم إصدارها النقدى 16 تريليون دولار وبلغ حجم اقتراضها 80 تريليون دولار، هذا فى الوقت الذى لا يتجاوز الناتج المحلى الإجمالى لها 19 تريليون دولار (أى أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلى الإجمالى تجاوزت 400% وهو مؤشر يعكس اختلالات خطيرة). وهذه الاختلالات منبعها ومصدرها وبيتها هو النظام الاقتصادى الأمريكى الذى تمثل عملته (الدولار) الأساس الذى تتعامل به أغلب دول العالم. فالدولار حل محل الذهب كأساس فى الإصدار النقدى وكوحدة قياس فى التعاملات المالية والتجارية الدولية. ويلاحظ أنه فى هذا التوسع النقدى والزيادة المهولة فى حجم الاقتراض اللذين اجتاحا دول العالم جميعها، لم يقابله زيادة متناسبة فى حجم الاقتصاد العينى (أى القائم على سلع وخدمات ملموسة)، بل قابله وزاد عليه تركز وفوارق كبيرة غير مسبوقة فى الدخول والثروات عبر كل دول العالم. ولم تحقق حرية التجارة وعولمة الاقتصاد خلال ربع القرن الماضى ما وعد به المروجون لها من تنمية وعدالة ومشاركة فى الفرص وتحسين مستوى المعيشة للدول النامية والفقيرة.

وفى جانب آخر وخلال العقود الثلاثة الأخيرة ظهر فى النظام الاقتصادى الرأسمالى العالمى شركات تكنولوجية ومؤسسات وأنشطة مالية (أصولها العينية محدودة) مثلت أدوات لتحويل الثروة والقيمة من صانعيها الأصليين إلى هذه الشركات والكيانات والأنشطة الجديدة. وعلى سبيل المثال بلغت القيمة السوقية للشركات التكنولوجية أرقاما فلكية تمثل تركزا وتراكما هائلا وغير مسبوق للثروة لمالكى هذه الشركات فى تاريخ النظم الاقتصادية القديمة والمعاصرة. فمثلا بلغت القيمة السوقية لشركة مايكروسوفت تريليونا و685 بليون دولار، ولشركة آبل تريليونا و256 بليون دولار، ولشركة أمازون تريليونا و233 بليون دولار، ولشركة جوجل تريليونا و167 بليون دولار، ولشركة فيسبوك 584 بليون دولار. وقد فاقت هذه الأرقام قيم المؤسسات المالية المتمثلة فى البنوك وصناديق التقاعد الكبرى فى العالم وكذلك العوائد الرأسمالية للتعامل فى البورصات العالمية. هذا رغم أن الكيانات والأنشطة الأخيرة تراكم هى الأخرى ثروات هائلة لا يقابلها ولا يتناسب معها ما تضيفه من قيمة للنشاط الاقتصادي. ويحمل هذا التراكم والتركز للثروة عدم عدالة فى توزيع عوائد النشاط الاقتصادي. فبينما تتراكم هذه الثروات الهائلة لحفنة قليلة يتم هذا استقطاعا من المستحقين لجزء كبير من هذه الثروات وهم المشتغلون فى الأنشطة الإنتاجية. وهؤلاء الأخيرون يمثلون السواد الأعظم من المجتمع ومن العاملين فى الأنشطة الاقتصادية بقطاعاتها المختلفة. ومع ذلك فإن نصيبهم العادل من عوائد جهدهم وإسهامهم فى القيمة والإنتاج لا يحصلون عليه، لأن النظام الاقتصادى يسمح للملاك ولأصحاب الشركات التكنولوجية والشركات والمؤسسات المالية وللمتعاملين المضاربين فى البورصات أن يحصلوا على عوائد كبرى (اقتطاعا واستنزالا من أنصبة صانعى القيمة). وقد صدر فى 2018 كتاب حاز على جائزة عالمية فى العلوم الاقتصادية عنوانه القيمة لكل شيء للاقتصادية المرموقة ماريانا ماتزيكاتو. ويحلل الكتاب بعمق وبراعة الآليات غير العادلة للنظام الرأسمالى المعاصر التى يتم بمقتضاها اقتطاع الثروة والقيمة من صانعيها الحقيقيين إلى الفئات التى تراكم وتركز الثروة ومثالها ملاك المؤسسات المالية والتكنولوجية. ويبرز الكتاب كيف أن هذا الاختلال ينتج فقاعات مالية وتركز فى الثروة يؤديان إلى انهيارات وعدم استقرار فى النظام الرأسمالى الذى لا يتضمن ضوابط وكوابح تحقق التوازن والتوزيع العادل.

وأخطر الاختلالات المستجدة فى النظام الاقتصادى العالمى هو العملة المشفرة أو ما يسمى بيتكوين. وتتمثل هذه العملة قى وحدات الكترونية تمثل وسيطا للتعاملات التجارية والمالية المباشرة وهى لا تخضع لأى رقابة لا على المستوى الوطنى ولا العالمي. وبصرف النظر عن أن التعاملات بالعملة المشفرة تمثل مرفأ آمنا لأباطرة الجريمة وغسل الأموال كونها لا تخضع لأى رقابة، فهى تمثل آلية جديدة لتضخم وتراكم الثروة سحبا من أنصبة صناعها الحقيقيين. فالثروات المتحققة فقط من امتلاك وحدات من العملة المشفرة تعتبر هائلة وتمثل دخولا وعوائد ريعية طفيلية فضلا عن كونها مصدرا جديدا لتسارع التضخم وللفقاعات والاختلالات فى النظام المالى العالمي.فمثلا بعد أن كان الدولار يساوى 300 وحدة بيتكوين فى 2010، اصبحت الآن قيمة وحدة البيتكوين 28500 دولار.

السؤال هنا كيف تتصرف وتتحوط الدول النامية ومنها مصر، إزاء هذه الاختلالات الكبرى الوافدة إليها من النظام الرأسمالى العالمي؟ وربما يكون هذا مجالا لمقالة وحديث آخر.


لمزيد من مقالات د. أحمد صقر عاشور

رابط دائم: