رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بريد الجمعة.. يكتبه: أحمد البرى
شبح لا يغيب!

يكتبه أحـمــد البــــــرى

أنا سيدة فى التاسعة والأربعين من عمرى، نشأت فى أسرة متحابة تضم الأب والأم وسبعة أبناء، وترتيبى الثانى بينهم، وأبعث رسالتى إليك عن جانب واحد من متاعبى يتعلق بالتحرش الذى عانيته فى طفولتى، وتعانيه ابنتاى الآن، وكانت أول مرة أتعرض له فى الشارع عندما كنت فى السادسة من عمرى، وأنا أسير مع أختى التى تكبرنى بست سنوات، وذلك على يد رجل مسن كان يمشى وراءنا، ولما لمسنى أبلغت أختى، فأمسكت بيدى، وظللنا نجرى إلى أن وصلنا إلى البيت، وقبل أن ندخله، طلبت أختى منى عدم إبلاغ والدتنا خوفا من أن تضربنا، أو تسئ الظن بنا، واستدعيت كلامها وأنا جالسة على سريرى، وتساءلت فى نفسى: ما الذنب الذى ارتكبته لكى تضربنى أمى، وبكيت بكاء صامتا حتى غلبنى النوم، ودخلت الواقعة فى «اللاشعور» بعد فترة، ثم استدعتها ذاكرتى مع ثانى واقعة تحرش من صديق لأبى، ومرتبط بعلاقة نسب مع عائلة أمى، فلقد جاء لزيارتنا، وانتهز فرصة عدم وجود أحد، واقترب منى، ولمسنى، وقال لى: «لو قلتى لأبوكى هيدبحك»، ومن وقتها لم أسلم عليه، ولو شاهدته فى أى مكان أبتعد عنه على الفور، ودخلت الواقعتان فى «اللاشعور» سنوات عديدة، حيث إننا سافرنا إلى الخارج، ولم نتعرض حتى مرحلة الثانوية العامة لما يعكر صفونا، والواقعة الوحيدة بعد ذلك هى التى حكتها أختى التى تصغرنى بعامين حيث إن مدرسا كان يعطينا دروسا فى البيت لمسها، وكانت أجرأ منى، إذ قالت لأبى: «إن ا. فلان لمس رجلى»، لكن أبى وأمى من فرط طيبتهما ظنا أنها تدّعى ذلك لكى لا تأخذ الدرس، وخلال دراستنا الجامعية وما بعدها تعرضنا لمضايقات وتحرشات فى المواصلات، وكنت أواجه أى موقف بشجاعة برغم أننى فى داخلى لست جريئة، وينتابنى الخوف فى معظم المواقف.

وبمرور الوقت تولّدت لدىّ عقدة من الرجال، وتربصت بكل عريس يطرق بابى، وكرهت الاقتراب من أى شاب، وتمت خطبتى مرات عديدة وانتهت جميعها بالفشل، ومنها خطبة حاول فيها العريس أن يمسك يدى، فلم أقبل.

وذات يوم مرض «النسيب المتحرش»، ولزم الفراش، وكان مرض الموت، مثلما قال الأطباء وقتها، وأصرت أمى على أن أزوره معها، وهى لا تعرف شيئا عن الواقعة القديمة التى مازالت عالقة بذهنى، وبمجرد دخولى عليه أحسست بالانتصار، وقد نادى على اسمى، وشاهدت بعينيه دموع «الندم والانكسار»،. فنظرت إليه، ولم أقل له: «لا سلامتك ولا ازيك»، بل فرحت إنه «خلاص هيموت، وربنا هيجيب لى حقى».. وبعدها بأيام قليلة رحل عن الحياة، وظللت ـ كلما تذكرته ـ أقول فى نفسى حسبى الله ونعم الوكيل، إلى أن استمعت إلى رجل دين يتحدث عن «العافين عن الناس»، فجاهدت نفسى، وسامحته لكى أنال هذه الدرجة عند الله.

وأكرمنى الله بزوجى، وأنا فى الخامسة والثلاثين من عمرى، وهو مطلق ولديه أبناء، لكنى ارتحت إليه، ولم تستغرق خطبتى له سوى خمسة أشهر، ووجدته نعم الزوج والحبيب والأب والصديق، وبرغم أن أمى لم تكن متقبلة زواجى من مطلق ولديه أبناء، فإنها وجدته شخصا آخر، وقد أحبه الجميع، ومهما قلت عنه، فلن أوفيه حقه، ولم ينغّص حياتنا إلا «العقدة القديمة» التى جعلتنى أخشى «العلاقة الزوجية»، وبعون الله تغلّبت على هذا الإحساس، وساعدنى زوجى بعطفه وحبه وصبره، وبالطبع حدثت بيننا بعض المشكلات التى تحدث فى أى بيت، وأغلبها بسبب غيرتى عليه وحبى الجارف له، ولا أعرف طريقا إلى الراحة إلا عندما نتصالح، وأزيل أى سوء تفاهم حتى لو كان هو المخطئ، لأن الخصام والمشاحنات تتعبنى نفسيا.

وأكرمنى الله ببنتين عمراهما عشرة أعوام واثنى عشر عاما، وأحصل من عملى على إجازات بدون راتب لكى أراعيهما، وهما طول الوقت تحت عينى، وأقرأ كثيرا عن التحرش لكى أحميهما منه، ودائما أقول لكل منهما: «إن جسمك ملك لك، ولا يجوز لأحد أن يراه أو يلمسه إلا أمك، ومتقعديش على حجر راجل غير أبوكى، وأى حاجة تحصل تقوليها لى».

ولقد سافرنا إلى الخارج بضع سنوات، ثم استقررنا فى مصر بمحافظة غير التى يقطن أهلى بها، ويسافر زوجى إلى الخارج بمفرده حاليا، ويأتى إلى مصر فى إجازة كل ستة شهور، وذات يوم منذ عامين، وبعد عودتنا من زيارة إلى أمى، طلبت ابنتى الصغرى أن تغلق الغرفة بالمفتاح لكى تخبرنى بأمر «سرى»، ووجدتها باكية ومرتعشة، فهدأت روعها، وعرفت منها أن ابن أختى، وهو أصغر منها بعامين تحرش بها.

وعلى فكرة أختى هذه تم تطليقها من زوجها لأنه «ماجابش حق بنتها لما أخوه اتحرش بيها اللى هو عمها»، وكانت وقتها فى أولى ابتدائى، وهى الآن فى آخر سنة بالجامعة.

وبعد تفكير عميق اتصلت بأختى، وأبلغتها بما حدث، وقلت لها لولا أننى أعتبره ابنى، لكان لى تصرف آخر، فشكرتنى، فرددت عليها بأننى سأبلغه ذلك بنفسى، فطلبت ألا أقول له شيئا عن معرفتها بفعلته، فوافقتها، وكان هذا غباء منى، وعندما تحدثت معه أبدى أسفه، وقال أنه لن يكرر الخطأ الذى وقع فيه.

وعندما انتشر على مواقع التواصل الاجتماعى فيديو المحاسب المتحرش بطفلة أمام أحد معامل التحاليل الطبية، وخروج السكرتيرة لإنقاذ الطفلة المتحرش بها، أطلعت ابنتىّ على جزء منه، ونصحتهما بعدم الانخداع بمظاهر الناس، فأحيانا يكون المتحرش ظاهريا محترما على عكس حقيقته، ولكن ليس معنى ذلك أن نعيش فى رعب من كل الناس، والمطلوب هو الحذر لا أكثر، وبعدها بيومين أبلغتنى ابنتى الصغرى مرة أخرى أن الولد نفسه «ابن أختى» تحرش بها، عندما كانت فى زيارة إلى خالتها، وأنها حاولت الصراخ لكن صوتها كان مكتوما من شدة الخوف، وقالت إنها تعيش حالة رعب لمجرد مرور أى رجل أو ولد بجانبها.

إن زوجى سيأتى إلينا فى إجازة قريبا، وأختى تحاول التهرب منى لأنها متأكدة من أن ابنها ارتكب «مصيبة» جديدة، وأمى فى الثمانين من عمرها، وأخشى عليها من الصدمة التى قد تحدث لها إذا فجرت الموضوع أمام الجميع.. أريد حلا يمنع هذا الولد من التحرش، وفى الوقت نفسه يحافظ على العلاقة الأسرية التى أصبحت الآن فى مهب الريح، فماذا أفعل فى مواجهة «شبح التحرش» الذى لا يغيب عنى؟.

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

فى جريمة «التحرش» وما شابهها من جرائم لا أخلاقية، لا تجدى أنصاف الحلول، ولا الخطب ولا المواعظ، وإنما يكون الحل بالمواجهة، والبتر الكامل للمشكلة من جذورها، وليس معنى أن قريب والدتك الذى تحرش بك، لم يكرر فعلته، وندم عليها أن الآخرين من المتحرشين على شاكلته، فها هو ابن أختك يكررها مع ابنتك، وقد يتمادى إلى ما هو أبعد من ذلك إذا لم تضع أختك حدا له وهى التى انفصلت عن زوجها لأنه لم يأخذ حق ابنتهما من عمها المتحرش ، ولا بديل عن الحديث معه فى وجود أختك، وعلى مرأى ومسمع من ابنتك، فهذا التحرك من جانبك سوف يردعه، وإذا لم يرتدع، وعاد إلى تكرار تحرشه بابنتك، فعليك تصعيد الأمر إلى زوجك وأبيه، حتى لو حدثت قطيعة بينكم، فأمثال هؤلاء لا أمان لهم، بل إن البعد عنهم «غنيمة» كما يقولون.

ولا شك أن كثيرين من ضحايا التحرش الجنسى يعانون مشكلات سلوكية وعاطفية ونفسية، والشىء المؤلم أن التحرش وقع من الشخص الواجب عليه حماية ابنتك ورعايتها، ولكن ما حدث ليس من صنع ابنتك، وليس لها دور فيه، وإنما هى جريمة لا يُسأل عنها إلا مرتكبها، فلتكن جلسة المواجهة فى وجود أختك وابنها هى بداية الحل، ويمكن الاقتصار على ذلك حتى لا تتشعب المشكلة، ولكن إذا عاد إلى صنيعه، فليتحمّل العواقب بتدخل الكبار.

ومن المهم أن نشير فى هذه المسألة «الشائكة» إلى ضرورة الاهتمام بملابس البنات، فلا تكون قصيرة ولا ضيقة، ولو كان ذلك أمام إخوانهن وأقاربهن، والاهتمام بالصحبة الصالحة ومتابعة الأبناء - ذكورا وإناثا ـ ولو كانوا عند أقارب لهم، وتعليم الأبناء مسائل الاستئذان والنظر والعورة وغير ذلك مما يتعلق بآداب المخالطة.

وينبغى على كل فرد، ألا يجعل ثقته عامة فى كل الناس، وعلى الآباء والأمهات مسئولية عظيمة تجاه أفراد أسرتهم عناية ورعاية ومتابعة وتربية.

ومن الواجب توعية الأطفال بخصوصيتهم وأجزاء جسدهم، فالتربية الجنسية المبكرة تعتبر الضامن الحقيقى لحمايتهم من الانتهاكات الجنسية.

وعلى الأبناء إبلاغ الأهل بكل شىء، من خلال الثقة المتبادلة بينهم، ففى ذلك تعزيز لشعورهم بالأمان عندما يتحدثون عن مشاكلهم، مما يجعلهم أقل خضوعا للابتزاز والتهديد من المتحرشين، وفى هذا السياق لابد من إخبار الطفل بشكل مباشر أنه سيكون بخير وأمان عند الحديث مع والديه عن أسرار تتعلق بجسده، أو تجاربه الخاصة الجسدية أو غيرها.

أيضا يجب عدم وضع استثناءات فى أذهان الأطفال، فالأقارب والأخوة والجيران ليسوا استثناء، خاصة عندما نتحدث عن تحرش الأطفال بالأطفال، وهذا لا يعنى تحذيرهم من الأخوة والأقارب بما يجعلهم خائفين من الجميع، لكن لابد من إخبارهم عن خصوصية أجسادهم، وعدم السماح لهم بإغلاق الأبواب على أنفسهم، حتى وإن كانوا أخوة، أو الذهاب إلى بيوت الأقارب أو الجيران دون رقابة.

ومن الملاحظات المهمة ضرورة مراقبة الطفل عند الاتصال بالإنترنت، فمن الممكن جدا أن يكون سبب وقوعه فى التحرش هو مشاهدته المواقع الإباحية.

إن معظم الأطفال الذين يتحرشون بأقرانهم يقلعون عن هذا السلوك بعد البلوغ والرشد، لكن سوء تصرف الأهل أو إهمالهم سلوك التحرش عندهم قد يكون سببا فى ترسيخ هذا السلوك وانتقاله إلى مرحلة المراهقة وربما إلى ما بعدها ليصبح سلوكا مستقرا، لذلك لابد من التعامل مع التحرش بين الأطفال (المتحرِّش والمتحرَّش به) بصورة سليمة.

إن المتحرش إنسان ذو سلوك مضطرب بصرف النظر عن عمره أو مستواه الاجتماعى أو الثقافى، فالمتحرش ليس مريضا نفسيا، بل هو شخص يدرك أفعاله، ولكنه يعانى خللا فى تركيبته الشخصية يجعله يتصرف بعنف تجاه الآخرين، وتساهم فى ذلك أسباب نفسية واجتماعية وسياسية، مثل التفكك الأسرى، والحرمان من الاحتياجات الجسدية، وعندما تجتمع هذه العوامل مع غياب للضمير والمبادئ والتربية الصحيحة، يصبح سلوك الشخص مائلا لكل أشكال العنف بشكل عام، ومنها التحرش الجنسى، وتشعر ممارسة هذا الفعل المعتدى بلذة وقتية، ليس فقط من لمس جسد أنثى أو مغازلتها بكلمات ذات إيحاءات جنسية، بل من فكرة التعدى والقمع والشعور بالتفوق على مَن لا حيلة له، فكلما انزعجت الضحية وأظهرت امتعاضها وتأذيها من هذا الفعل شعر هو بمتعة أكبر، أما على الصعيد الآخر فالضحية تتلخص مشاعرها فى الإحساس بالإهانة البالغة والدونية.

وما يدعم شعور الجانى ويشجعه على تكرار فعلته وكذلك شعور الضحية بالانكسار هو رد فعل المجتمع الذى مازال - رغم المبادرات العديدة والخطوات التى يقوم بها المجتمع المدنى والرسمى لمناهضة هذه الظاهرة - ينظر إلى الضحية على أنها الطرف الأضعف، ورغم أن ظاهرة التحرش قضية مجتمعية يتحمّل مسئوليتها الجميع، فإن الضحية مازالت تُعامَل على أنها المسئولة، سواء بسبب وجودها فى الشارع أو سلوكها أو ملابسها غير المناسبة، وهذه النظرة غير صحيحة، فأغلب المتحرش بهن يرتدين ملابس محتشمة.

ومن أبرز أسباب السلوك السلبى من المتحرش بها وعدم الإبلاغ عن الواقعة أن الفتاة نفسها أصبحت مقتنعة بأنها الكائن المذنب دوما، وأن الشكوى والبحث عن الجانى لينال عقابه، لن تجر عليها سوى الفضيحة وسوء السمعة.

إن أبشع الانتهاكات وأقساها ألما ما يحدث داخل الأماكن التى يُفترَض أن تكون الأكثر أمانا، مثل مكان العمل أو المنزل، والتحرش فعل ربما يمر فى دقائق، ولكن آثاره النفسية السيئة على الضحية تصل لدرجة الصدمة، وتمر بمراحل فى التفكير تبدأ بالإنكار للواقعة وكأنها لم تحدث، ثم تفقد القدرة على الإنكار لأن الحادث يظل مسيطرا على تفكيرها فتبدأ فى مواجهة نفسها بما حدث، وتصاحب هذه المراحل أعراض نفسية وجسدية مثل الاضطرابات والصداع، وقد تنسحب من المجتمع وتصاب باكتئاب مزمن، أو تبدأ فى تقبُّل ما حدث والتكيُّف معه لمواجهته وتطلب المساعدة لتخطى ما حدث وتجنُّب حدوثه مرة أخرى، وهنا ينبغى ألا نطلق كلمة ضحايا على مَن تعرضن لتحرش جنسى، بل «ناجيات».

وهؤلاء الناجيات غالبا ما يتحولن بعد ذلك إلى شركاء فى مكافحة الظاهرة، محاولين العمل مع جميع الأطراف المعنية فى تغيير الصورة الذهنية للمجتمع عن المرأة والرجل، وحث النساء على الثقة بأنفسهن، وعدم الشعور بالذنب تجاه سلوك شخص آخر يعانى الاضطراب، وكانت هى ضحيته للتنفيس عن غضبه.

من هذا المنطلق عليك المواجهة الحاسمة دون خوف، فابنتك الطرف الأقوى، وعندما تشعر أختك وابنها أنك لن تدعى ما فعله يمر بلا عقاب، سوف تبادر هى بتوبيخ ابنها، وتهديده بإبلاغ أبيه، وفضح أمره فى العائلة، فلكل شىء حدود.. وفقك الله وسدد خطاك.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق