رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الثانوية العامة وقلق المكانة

يقال إن القلق حمل ثقيل نتشارك جميعا فى حمله، وربما تنطبق هذه المقولة بشكل خاص على الثانوية العامة. ويثير هذا الوقت من العام شجونا كثيرة حول هذه العتبة الفارقة التى تتحدد فيها مصائرنا أو مصائر أبنائنا وأحبتنا وفقا للاعتقاد الشائع. ويرتبط هذا القلق الجمعى بالتصور السائد بأنها بوابة المستقبل، وعنق الزجاجة، وغيرها من التعبيرات التى تبث الخوف وتبعث على الرهبة.

والقلق يبدو مبررا لأن عاما دراسيا سوف يحدد مستقبل الطلبة فى هذه المرحلة المبكرة من عمرهم ويترتب عليه مسارهم العلمي، وبدرجة ما مسارهم العملي.بل إن فكرة أن درجة أو عدة درجات قد تحرم شخصا من حلمه،هى فكرة مخيفة بالفعل، والغريب أن أناسا فى كهولتهم أو حتى فى مراحل أكثر تقدما من العمر ما زالوا يسترجعون هذه المرحلة بقلقها وتوترها، ويتذكرون كيف أثرت على مستقبلهم، أو يتندرون كيف لم تؤثر وأن المستقبل حمل لهم مفاجآت لم تكن فى الحسبان.

ولعل السبب الأهم فى ارتباط الثانوية العامة بكل هذه المشاعر المضطربة هو علاقتها بقلق الموقع الاجتماعى أو ما يسميه آلاندوبون فى كتاب يحمل نفس الاسم «قلق السعى إلى المكانة». فحلم النجاح فى الثانوية العامة فى جوهره هو تطلع لمكانة ما، تتمثل فى الالتحاق بكلية أو مسار محل تقدير المجتمع، أو ما يعرف بكليات القمة. وقد يتعلق الأمر بمكانة «التفوق» فى حد ذاتها والتى تجلب رضا الأهل وفخرهم، بينما يجر الإخفاق الشعور بالخيبة والمهانة.

إن هذا القلق ومعاناة التعرض لآلام المهانة، والنبذ أو فى أفضل تقدير التجاهل، هو ما يضفى على الثانوية العامة كل هذه الرهبة. بل إن الطالب قد يكون متفوقا ولكنه لم يحصل على المجموع المؤهل لإحدى الكليات، فيتعامل مع نفسه معاملة “البليد”، لأنه فشل فى مجاراة معايير النجاح التى وضعها المجتمع، أو توقعتها منه أسرته ومحيطه، أو تطلع إليها بنفسه. ويعد قلق المكانة من أخبث أنواع القلق، لأنه يتسلل إلى النفس مشكلا نظرة الإنسان لذاته، وتقديره لقيمته، وما إذا كان يعتبر نفسه ناجحا ومستحقا التقدير وإعجاب بل ومحبة الناس، أو فاشلا، ومحروما من الاهتمام والاستحسان، وهذا ما يشكل «محنة» الثانوية العامة.

وبالرغم من أن التطلع لمستقبل أفضل وبذل الجهد لتحقيقه أمر مهم ومطلوب لا شك، وأن أهمية التعليم كبوابة أساسية للمكانة بأبعادها الرمزية والمادية، لا تحتاج إلى تأكيد، إلا أنه يجب التفكير فى سبل لتحرير مشاعر الأبناء من هذا القلق الكامن، والتفكير فى مستقبلهم بشكل أكثر مرونة، ناهيك عن الاطمئنان إلى أن التقدير والقبول الاجتماعى غير مرهون بأدائهم الدراسي. ويتطلب الأمر تغييرا ثقافيا عميقا، ومراجعة لأفكارنا حول معايير النجاح، والتقسيمات الحدية بين كليات قمة وقاع، وبين مسارات دراسية تفرز أعلاما وأخرى نكرات، وبأن التحقق ورضا وحب واعتراف المجتمع بالجدارة الشخصية للإنسان يمر عبر بوابة كلية ما.

وتدعم الكثير من التطورات العالمية الاتجاه نحو هذا التغيير، فالعالم يتغير، والتعليم الآن تنوعت مصادره وأصبح عملية مستمرة أكثر من ذى قبل، والمصادر المفتوحة للتعليم تزداد يوما بعد يوم، ومثلها قنوات التدريب العام والمتخصص. كذلك فإن العائد من الالتحاق بدراسات بعينها غير ثابت، وتتغير المكانة المرتبطة بها من وقت لآخر. ويوما بعد يوم يزداد الميل إلى العمل الخاص، وريادة الأعمال، والأعمال الإبداعية، وتتولد أشكال جديدة وغير تقليدية من الأعمال والمهن، وإن كانت نظرة المجتمع تحتاج وقتا أطول لاستيعاب تلك المستجدات والتعبير عنها بأنماط مختلفة من السلوك والمعتقدات. كذلك فإن ظواهر مثل العمل عن بعد أو العمل من المنزل خلق أنماطا جديدة من الأعمال تحتاج لمهارات مختلفة، ومن المتوقع أن تتطور وتستمر هذه الاتجاهات حتى بعد زوال ظروف الوباء التى أدت إليها.

وبينما يتبلور الجديد، يتلاشى المألوف والمعتاد، فالاستقرار الوظيفى يتراجع،وظواهر مثل تغيير المهنة، أو الانتقال من محل عمل لآخر فى إطار نفس المهنة آخذة فى الصعود، حتى أن استطلاعا أخيرا لشركة مايكروسوفت يشير إلى أن أقل قليلا من نصف من تم سؤالهم ينوون تغيير وظيفتهم بعد انتهاء الوباء، وبالتالى فالمسارات المهنية ليست جامدة أو محفورة فى الصخر مثلما اعتدنا من قبل.

وليست مصر بمعزل عن كل هذه التغيرات، فعلى سبيل المثال، تمتلئ صفحات التواصل الاجتماعى بقصص نجاح للكثيرين ممن تركوا المسار المهنى المرتبط بدراسة محسوبة على النخبة أو كليات القمة ليبدأوا مشروعات تقوم على موهبة أو هواية أو حرفة يميلون إليها، والكثير منا يعرف فى دوائره المباشرة من أقارب وأصدقاء من درسوا المجالات المرتبطة بالمكانة التى ترضى محيطهم الاجتماعى ثم اتجهوا لعمل مختلف وغير تقليدي. ويشير المرصد العالمى لريادة الأعمال إلى اتجاه متزايد للعمل الخاص وريادة الأعمال فى مصر، وظهر ذلك بشكل ملحوظ فى الفئة العمرية الشابة.

الأمر إذن أكثر رحابة من تلك «اللقطة» الزمنية، فالمصير نظل نكتبه فى كل لحظة بتوفيق وتيسير من الله، ومسارات التعليم والتدريب وتطوير الذات مستمرة، والمستقبل فى حالة سيولة مع كل ما قد يحمله ذلك من إيجابيات أو تحديات، والجهد المخلص كفيل بالنجاح الذى يتجاوز كثيرا حائط مبكى الثانوية العامة.


لمزيد من مقالات د. هناء عبيد

رابط دائم: