يختلف الإحساس بيوليو من زمن الى آخر وتضىء الذاكرة بظاهرة انتشار القوات المسلحة فى شوارع القاهرة صباح الثالث والعشرين من يوليو عام 1952 حيث كان الأتوبيس يحملنى من المنيل الى حلمية الزيتون حيث مسكن خالى القريب جدا من منزل اللواء محمد نجيب الذى صدر باسمه البيان الأول لثورة 23 يوليو، لتتوالى الشهور لأرى الصراع المكتوب بين أفكار الضباط الأحرار ومحاولة الاستعمار العثمانى أن يتخلل للضمير المصرى عبر الإخوان، وبرصاصات بلهاء تفشل خطة اغتيال جمال عبدالناصر عام 1954، لا أنسى مشهد تغير الناس حين صار الفلاحون فى قرية أنشاص يرتدون فى أرجلهم البلغ والأحذية الكاوتش، بعد أن كانوا يسيرون حفاة.
تمر الأيام وتتلاحق الأحداث ونشهد جلاء الاستعمار الإنجليزى من قواعده على ضفاف قناة السويس, ثم أضاءت الإسكندرية بصوت جمال عبدالناصر وهو يعلن تأميم قناة السويس يوليو 1956 صار الوطن كله جسد رجل واحد له حلم أساسى هو بناء السد العالى. لكن إحساس جمال عبدالناصر بالأمن غلب عليه فلم يلتفت مثلا الى خطة الثلاثى الفرنسى الإنجليزى الإسرائيلى لإعادة تقسيم مصر وكان ثروت عكاشة قد استطاع أن يصل الى جوهر الاتفاق بين إنجلترا وفرنسا وإسرائيل, وكان نداء تحرير مصر من العدوان الثلاثى هو الصرخة التى جعلت من الصعيد والدلتا كتلة قتال واحدة وتوهجت عيون الشباب بالرغبة فى السفر الى مدن القناة لتحريرها من آثار العدوان الثلاثى، ونجحت مصر بفرض هيبتها وعبر قدرتها على التوحد مع كتلة عدم الانحياز التى تضم شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية, وصارت فكرة هوية الشعوب بالاستعمار تسرى فى شرايين الكرة الأرضية.
لم تنس مصر حق الجنوب العربى للاستقلال ولم تنس حق الجزائر فى طرد المستعمر الفرنسى وأضاءت إفريقيا بكثير من مشروعات التنمية التى أسسها جمال عبد الناصر.
كانت خطوات الرجل قبسا من نور الحرية، ولكن التآمر والأطماع الصغيرة حاولت أن تطفئ ضوءه الباهر ثم جاء الترهل المصحوب بالغرور والعجز عن إتقان المهام ليعصف بنا فى حرب يونيو 1967، لتفيق إسرائيل من غفوة الانتصار الأبلى على أصوات مدفعية حرب الاستنزاف. لم يكن هناك رجل واحد فى صفوف القوات المسلحة قادرا على قبول استمرار النكسة وشهدت مياه القناة كثيرا من قوارب تحمل مقاتلين أذاقوا الخصم الإسرائيلى الويل.
انتبه العالم كله الى أن مصر من حقها أن تكون حرة ومستقلة وقائدة كان هذا هو الضوء الباهر الذى أضاءت به شمس السادس من أكتوبر 1973.
ومازالت المعجزة العسكرية التى رسم تفاصيلها الفريق سعد الشاذلى ثم تبعه الفريق عبد الغنى الجمصى، تمر الأيام من بعد ذلك فى محاولة الخروج من أسر العباءة السوفيتية وكانت أمريكا تنقر بأصابعها الأحلام فى اقتصاد مزدهر يختلف عن الاقتصاد الاشتراكى الذى ترهل فى أنحاء العالم أجمع ولكن كثيرا من البثور والأفاعى ألتفت حول اليوم المصرى العادى لتبرز من جديد فى ثعالب التأسلم الذى راح يستغل هوس الجوع عند المسحوقين من ضعاف الريف وفى نفس الوقت كان هناك سعار الطبقة الجديدة التى سماها الراحل النبيل دكتور رفعت المحجوب بأنهم القطط السمان ثم تولى مبارك القيادة بعد محاولة التأسلم قهر فكرة الحرية فى مقتل محمد أنور السادات, وبدأ الصراع الواضح بين التأسلم وبين عجز القيادة عن بناء تنظيم سياسى قادر على مواجهة الثعالب التى تنهش الجسد المصرى مرة باسم التأسلم وأخرى باسم الانفتاح.
كان الحلم المصرى فى حياة لائقة يترنح بين عجز التعليم عن تخريج كوادر جديرة بتحمل مسئولية المستقبل وتراكم الرقود يتكلس الى أن انفجر الشباب المطالب بمستقبل يختلف عن هذا الواقع فى يناير 2011 ولكن ثعالب التأسلم الراضخة لأفعى الاستعمار العثمانى استطاعت أن تسرق من عمر المصريين عاما كاملا لينفجر هذا الشعب من جديد فى الثلاثين من يونيو ويطل عليه يوليو جديد يحمل كل خبرات يوليو السابقة ويضيف لها تأكيد فكرة الاستقلال الوطنى.
عن نفسى أنظر بشجن الى محاولة الأجيال الصاعدة أن تغير من الواقع المصروف لها واستطاعت قيادة عبدالفتاح السيسى أن تزلزل الأرض تحت أقدام الكسالى والعاجزين عن الخيال فأضاءت خريطة مصر عشرات المشاريع التى تنهى عصر تسول المسكن المقبول ورأينا شرق مصر يتصل بغربها وشمالها يتطلع الى جنوبها فى تقارب لم يحلم به أحد من قبل.
ولكن يظل حلم التعليم المتقدم للحاق بالعصر يتعسر برواسب مابقى من الترهل والتأسلم والجوع للمكسب دون إضافة عبر مراكز دروس خصوصية وهى تنظيم سياسى مهمته هدم المستقبل ولابد أن تقف الدولة ضده بكل حزم.
أيام يوليو بالنسبة لكاتب هذه السطور هى أيام من الشجن الملتهب بالتذكار أحببت فيه جمال عبدالناصر وعاتبته بما يفوق خيال أى أحد ورأيت العديد من ضباط 23 يوليو وهم يبكون النصائح التى أسدوها للقيادة السياسية ولكنها لم تأبه بها.
ولكن لم تبخل مصر على واقعها ومستقبلها بخبرة عظام تجمعوا بتواضع حول عبدالفتاح السيسى لتمر أيامنا فى محاولة صراع لمستقبل يختلف عن الترهل المتأسلم. عاش يوليو شهر الحرية المتجددة .
لمزيد من مقالات منير عامر رابط دائم: