أمسك الصحفى ورقة وكتب تفاصيل مشاهداته للبركان: الرعب فى العيون.. النار تشتعل فى أجساد تتقلب.. وآخرون يجرون فى كل اتجاه.. أشلاء سفن دفعتها الأمواج إلى الطرقات.. أشجار تسقط محترقة ومبان تتهدم.. الشمس تختنق بالدخان والغبار.. شوارع المدينة جحيم، ثم ترك الصحفى الورقة على مكتبه وعاد إلى بيته، ودخل أحد زملائه، قرأ التفاصيل المرعبة لخبر بركان بالهند، فعجل بإرساله الى المطبعة، وتعجب القراء والمسئولون وجهات الاختصاص من الخبر الذى نشرته صحيفة «بوسطن جلوب» ثم تبين أنها مشاهدات صحفى لرؤيا فى المنام، لكن الأعجب بعد يومين من نشر الخبر الاثنين ٢٧ أغسطس 1883 ثار بركان مدمر بجزيرة كاركاتوا الهندية، أدى إلى مقتل 36 ألف شخص، ووقعت نفس مشاهدات الصحفى فى الحلم، ونشرتها الصحيفة بالخطأ!. هذه الواقعة التقطها خيال الفنان الروائى خليل الحداد فى روايته «إسكندرانى من بوسطن» احد مقتنياتى من معرض الكتاب الذى اجتاز تحدى كورونا هذا العام وأحدث حراكا ثقافيا ممتعا رغم أنف التباعد الثقافي!
من أول لحظة تحرضك الرواية على الانتباه والاستعداد للجرى لملاحقة الأحداث التى تقودها أحلام البطل، فجاءت الرواية لوحة فسيفساء تتداخل فيها الحقائق والوقائع بمهارة فنان مارس بإتقان رسم وتأليف قصص المغامرات للأطفال بالكلمات والألوان. تدور الرواية حول شاب اسكندرانى اسمه «بدر» بدأت طموحاته العلمية بحلم رآه فى منامه يقود دراجة تطير فى الهواء بجناحين، وسط سحب ملونة .. وقرر ان يحقق حلمه، واجه أهوالا، واختطفه مجرمون محترفون مرتين، فى كل مرة ظن انه لن ينجو لكن نجا بالحلم وأصدقاء شرفاء، أحب زميلته سارة لكن قتلتها عصابة إجرامية فى مواجهة بمنطقة «الذراع البحرى»، سافر الى بوسطن لإكمال مشروعه العلمى، جاءه والده فى الحلم وقدم له حورية وقال هذه دنياك وآخرتك، وفى الجامعة وجدها كأنها هى، رائعة الجمال اسمها كارولين أمريكية أشهرت إسلامها على يد عالمة الفيزياء زينب، فكانت أولى قضايا العالمة بعد هذا الحدث هى البحث عن اسم إسلامى للمسلمة الجديدة، فاختار لها بدر اسم سمية تيمنا بأول شهيدة فى الإسلام ..وانتهت الرواية بحفل زفاف اسطورى بالإسكندرية!.
لا أريد تناول البناء الفنى للرواية وتحول المؤلف من سارد إلى صانع للزمان والمكان، واستطاع برشاقة ـ كما قال أستاذنا الدكتور يوسف نوفل ـ أن يأخذ بناصيته بعذوبة نحو المصائر والنهايات والأحداث والأفعال!. لكنى سألبى دعوة المؤلف للقارئ بطرح أسئلة للتحاور بشأنها، وأبدأ بسؤال: كيف يتحول السارد من مبدع لأحداث خيالية إلى فقيه يحدثنا عن قوة العرف فى ضرورة اختيار اسم مسلم لمن يشهر إسلامه من الأجانب، فلم يثبت أن تغيير الاسم من أركان الإسلام، كما أن تغيير الاسم ربما فيه استعلاء يتعارض مع الحديث لا فرق بين عربى وأعجمى إلا بالتقوي.
من حق الروائى الفنان أن يحلم بأن يتمكن يوما من فك رموز الإشارات الكهروـ مغناطيسية التى يرسلها المخ فى أثناء الأحلام، وأن يحلق به الخيال لمحاولة تسجيل أحداث الأحلام على أسطوانة مدمجة، ستكون قفزة علمية رائدة، فكل الاختراعات العظيمة بدأت بحلم، وأفادنى خليل الحداد بطرح حقائق علمية مثل «ذاكرة القلب» فالقلب له ذاكرة أقوى من العقل، وتقودنا للاستفادة من الأحلام للتنبؤ بالمستقبل، لكن ليس من حق الروائى الفنان أن يتحول إلى مفت يشرح الآيات والأحاديث النبوية الشريفة، من حقه وواجبه أن تحمل روايته بلاغا لمن يهمه أمر جمال عروس البحر المتوسط، ونحن نعيد بناء المجتمع المصرى ونجحنا فى تحويل العشوائيات إلى سكن آدمى، لكن منطقة «الذراع البحرى» عند الكيلو 21 تعج الآن بالمطاريد وبالمجرمين وتجار المخدرات والسلاح وقطاع الطرق!.
كما تحمل الرواية مفهوما للوطن على لسان عالمة الفيزياء يحتاج توضيحا: فالوطن وطن.. والعلم وطن.. والدين وطن.. والفن الراقى المحترم أيضا وطن!. أعرف أن الوطن عند المؤلف كفنان فكرة مقدسة نهيم فيها بأرواحنا، أما عند عامة القراء أمثالى فالوطن منطقة جغرافية محددة، تستوجب الاحترام، والتضحية فى سبيلها، والموت دفاعا عنها واجب شرعا، وشبهه توفيق الحكيم بالوردة له شكل وروح وهوية، وأوراقها العلم والدين والفن والنظام الاجتماعى..، ولا يتساوى الوطن كمجتمع مع إفرازاته للإنسانية جمعاء كالعلوم والأديان والفنون، وإلا كانت الهند أو أمريكا خمسين ألف وطن، بعدد الجنسيات والديانات واللغات، والدولة الوحيدة التى تسعى لترسيخ مفهوم الدين زورا فى وطن هى إسرائيل، بترويج حل يهودية الدولة، فالوطن مكان يتسع للجميع جسده بيت شعر كتبه صلاح جاهين: من أرضنا هلّ الإيمان والدين /عيسى ومحمد ثورتين خالدين!.
لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف رابط دائم: