هل يبتسم الحظ أخيراً للمواطنين السود؟ أم أن شبح العبودية وتبعاته من تمييز عرقى فى جميع المجالات سيستمر وتظل قضية حقوق السود والملونين مادة للتجارة الانتخابية والسياسية للأبد؟.
منذ انتهاء عصور الاحتلال والاستعمار الأوروبى التى سادت العالم حتى ٥٠ عاما مضت، تطل من حين لآخر مبادرات دولية وإقليمية، لتعويض السكان الأصليين والأقليات، يتقدمهم السود والملونون، عن عهود سابقة من الذل والعبودية والحرمان من الحقوق الاقتصادية والسياسية بل الإنسانية غالباً، على أساس التمييز بينهم وبين العرق الأبيض المتفوق، الذى يتحكم فى ثروات الأرض ومقدرات شعوبها.
على الرغم من كافة المبادرات التى أطلقتها المنظمات الدولية والولايات المتحدة ودول أوروبية وآسيوية مستعمرة سابقاً، تظل قضية حقوق السود والملونين مادة رئيسية للجدل، وجرحا لا يندمل فى التاريخ الإنساني.
وجاءت قضية مقتل المواطن الأمريكى الأسود جورج فلويد، على يد شرطى أبيض، لتعيد قضية السود إلى الواجهة مجددا، وهو ما يراه مناهضو العنصرية فرصة لإصلاح أخطاء الماضى القريب، فيما يعتبر آخرون، أن العنف ضد الملونين ونبذ السود سيظل مادة للتجارة السياسية، ولن تتغير العنصرية داخل المجتمعات الاستعمارية القديمة.
الأمم المتحدة والرئيس الأمريكى جو بايدن، قدما مبادرتين لنبذ العنصرية وتعويض السود عن آلام الماضى، بل إن بايدن طرح تصورا كاملا لتقليص الفجوات بين طبقات المجتمع الأمريكي، ومنح الملونين والسود حقوقهم المسلوبة على حد قوله!.
تحت دعوى محاربة العنصرية، طالبت ميشيل باتشيليت، المفوض السامى لحقوق الإنسان فى الأمم المتحدة بتعويضات للسود، وحث المفوض السامى الأممى، فى تقرير تاريخى صدر بعد مقتل فلويد فى الولايات المتحدة ، بلدان العالم على بذل المزيد للمساعدة فى إنهاء التمييز والعنف والعنصرية المنهجية ضد المنحدرين من أصل إفريقى و «تعويضهم».
وقدم تقرير مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، نظرة شاملة على جذور قرون من سوء المعاملة التى واجهها الأفارقة والمنحدرون من أصل إفريقي، لاسيما من تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلنطي، ويسعى التقرير إلى إحداث تحول كبير لمعالجة آثار العنصرية المستمرة حتى اليوم. ويلقى التقرير، الذى استغرق إعداده عامًا، الضوء على آفة العنصرية وتأثيرها على السكان المنحدرين من أصل إفريقي، وخصوصاً عمليات القتل المتتالية التى تعرض لها السود العزل بالولايات المتحدة، وفى أماكن أخرى، مؤكداً أن هناك اليوم فرصة بالغة الأهمية، لتحقيق نقطة تحول فى المساواة العرقية والعدالة››.
ويهدف التقرير إلى تسريع إجراءات الدول لإنهاء الظلم العنصرى، ووضع حد للإفلات من العقاب على انتهاكات الحقوق من قبل الشرطة، وضمان سماع أصوات المنحدرين من أصل إفريقي، ومن يتحدثون ضد العنصرية، ومواجهة أخطاء الماضى من خلال المساءلة والإنصاف.
ودعت باتشيليت، جميع الدول إلى الكف عن إنكار العنصرية وتفكيكها، لإنهاء الإفلات من العقاب وبناء الثقة، للاستماع إلى أصوات المنحدرين من أصل إفريقى، ولمواجهة إرث الماضى القبيح. واعتبرت أن التعويض النقدى وحده لا يكفى وسيكون جزءًا من مجموعة من التدابير للمساعدة فى تصحيح أو تعويض الظلم.
وقالت إنه لا ينبغى فقط حساب التعويضات بالتعويضات المالية، بل يجب أن يشمل أيضاً، رد الحقوق، وإعادة التأهيل، والاعتراف بالظلم، والاعتذار، وإحياء الذكرى، والإصلاحات التعليمية ووضع «ضمانات» لعدم تكرار هذه المظالم مرة أخرى.
وكان مجلس حقوق الإنسان المدعوم من الأمم المتحدة، قد أصدر تكليفًا بإعداد التقرير خلال جلسة خاصة العام الماضي، بعد مقتل فلويد، وهو أمريكى أسود قُتل على يد ضابط شرطة أبيض فى مينيابوليس فى مايو ٢٠٢٠. وحُكم على الضابط، ديريك شوفين ، بالسجن ٢٢ عاما ونصف العام الأسبوع الماضي.
واندلعت الاحتجاجات بعد أن أظهر مقطع فيديو مؤلم لأحد المارة، كيف كان فلويد يلهث بشكل متكرر : «لا أستطيع التنفس!» بينما صرخ المارة على الضابط للتوقف عن الضغط بركبته على رقبة فلويد الذى توفى بعدها. وقال التقرير الدولي، إن الاحتجاجات ضد مقتل فلويد والحكم الحاسم ضد شوفين، هما نقطة أساسية فى مكافحة العنصرية. واستند التقرير إلى مناقشات مع أكثر من ٣٤٠ شخصاً - معظمهم من أصل إفريقى - وخبراء قدموا أكثر من ١٠٠ مساهمة كتابية - بعضها من الحكومات.
وحلل التقرير ١٩٠ حالة وفاة، معظمها فى الولايات المتحدة، لإظهار كيف أن ضباط إنفاذ القانون نادراً ما يخضعون للمساءلة عن انتهاكات الحقوق والجرائم ضد الأشخاص المنحدرين من أصل إفريقي، وأشار إلى أنماط مماثلة من سوء المعاملة من قبل الشرطة فى العديد من البلدان.
ويهدف التقرير فى نهاية المطاف إلى تحويل هذه الفرص إلى استجابة أكثر منهجية من قبل الحكومات للتصدى للعنصرية، وليس فقط فى الولايات المتحدة - على الرغم من أن المظالم وإرث العبودية والعنصرية والعنف التى واجهها الأمريكيون من أصل إفريقى كانت المادة الرئيسية للتقرير.
كما عرض التقرير الحالات المشابهة والمخاوف والوضع فى حوالى ٦٠ دولة أخرى، منها بلجيكا والبرازيل وبريطانيا وكندا وكولومبيا وفرنسا.
وقالت منى رشماوي، رئيسة وحدة عدم التمييز فى مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، «لم نتمكن من العثور على مثال واحد لدولة اعترفت بالكامل بالماضي، أو أخذت فى الحسبان بشكل شامل آثار حياة المنحدرين من أصل إفريقى.
ودعا تقرير الأمم المتحدة الدول، إلى تعديل قرون من العنف والتمييز، وإلى الاعتراف الرسمى بالأخطاء والاعتذار وتقديم التعويضات بأشكال مختلفة. كما شجب تجريد المنحدرين من أصل إفريقى من إنسانيتهم التى كانت متجذرة فى البنى الاجتماعية سابقا، لتبرير الاسترقاق والممارسات العنصرية الضارة، وكذلك التسامح مع التمييز العنصري، وعدم المساواة فى عقاب العنف.
وأشار إلى أوجه عدم المساواة التى يواجهها المنحدرون من أصل إفريقي، والتهميش الاجتماعى والاقتصادى والسياسى الصارخ الذى يواجهونه فى العديد من البلدان، بما فى ذلك الوصول غير العادل إلى التعليم والرعاية الصحية والوظائف والسكن والمياه النظيفة.
وامتطى بايدن موجة إعادة حقوق السود قبل أيام، وحاول تبرير تراجع إدارته فى تحقيق معدلات جيدة للتطعيم ضد فيروس كورونا، بالقول إنه كان من الصعب إقناع السود الأمريكيين من أصل إفريقى بالتطعيم، لأنهم «معتادون على إجراء التجارب عليهم من عهود سابقة».
وقال بايدن الخميس الماضى، إن الولايات المتحدة لم تنقسم إلى هذا الحد منذ أيام الحرب الأهلية، ملقيا بالمسئولية على سابقه دونالد ترامب!.
وخالف وعود البيت الأبيض إلى حد بعيد تقديرات التطعيم المستهدف بنحو ٧٠٪، بحلول عيد الاستقلال بعد أيام والموافق ٤ يوليو!.
واستغل ذكرى مذبحة «تولسا» بالإعلان عن مبادرة لتقليل الفجوات بين المواطنين فى المجتمع الأمريكى، وخاصة تلك المبنية على أساس عرقي.
ففى ٣١ مايو ١٩٢١، هاجم العنصريون البيض حى جرينوود فى تولسا، وهو أحد أغنى مجتمعات السود فى أمريكا وقتها ، وقتلوا عددا من السود يتراوح عددهم بين ٥٥ وأكثر من ٣٠٠، ونهب وأحرق ١٠٠٠ منزل وشركة تجارية كأحد أسوأ حوادث العنف العنصرى فى التاريخ الأمريكى، وفى القرن الذى تلا مذبحة تولسا، تعرض الأمريكيون السود للتمييز فى جميع أنحاء الاقتصاد الأمريكى، فى الإسكان والبنوك والتوظيف.
ويبلغ متوسط صافى الثروة للأسر البيضاء ٨ أضعاف صافى ثروة الأسر السوداء، وهى فجوة ثروة عرقية اتسعت خلال جائحة كوفيد -١٩.
وبنى بايدن حملته الانتخابية لمنصب الرئيس على التعهد بالتصدى للعنصرية المنهجية وفجوات الفرص فى جميع جوانب الحياة الأمريكية.
رابط دائم: