إنها تحيط بنا من كل مكان، تلتف رءوسنا مع أضواء لافتاتها فى الشوارع، تمنحنا السعادة بأغانيها ذات الألحان الخفيفة والكلمات البسيطة فنرددها دون أن نشعر، ونظرا لقوة تأثيرها، نهرع إلى الأسواق وكأننا «منومون مغناطيسيا» لتنفيذ ما تمليه علينا.. إنها «الإعلانات التجارية» التى تعدنا بالمنتجات التى ستعيد إلينا شبابنا مرة أخرى، وأخرى ستجعلنا نمتلك منزل الأحلام. طوفان من الدعاية التجارية أصبح يغزو عالمنا من كل صوب، ولكن هل تخيلت يوما أن تخترق الإعلانات نومنا وما نراه خلاله من أحلام؟.
لا تستغرب الأمر، فما نقوله ليس بالجديد، إذ يعود مصطلح «حضانة الأحلام» إلى آلاف السنين ويمتد إلى ممارسات السكان الأصليين فى جميع أنحاء العالم، ويعنى ببساطة استخدام الصور والأصوات، وحتى الروائح، وغيرها من الإشارات الحسية فى أثناء اليقظة، لمساعدة شخص ما على أن يحلم بموضوع معين. فعلى سبيل المثال، إذا أراد الشخص أن يحلم بالبحر، سيكون عليه تجهيز محفزات فعالة للمخ تذكره بآخر مرة كان فيها أمام البحر، مثل رائحة اليود، وصوت البحر والأمواج. وفى القرن الرابع عشر، كان اليونانيون المرضى ينامون على أسرة ترابية فى معابد الإله أسكليبيوس، على أمل الدخول فى حالة من الأحلام المخطط لها، التى قد تكشف لهم عن العلاج.
إلى هنا تبدو الفكرة غير مؤذية، بل قد تكون مفيدة فى علاج اضطرابات النوم والكوابيس، ولكن يبدو أن الشركات التجارية كان لها رأى آخر، إذ وجد هؤلاء أن أحلامك قد تكون «الأرض الخصبة» للترويج لمنتجاتهم، وهو بالفعل ما قامت به إحدى شركات الجعة الشهيرة فى بداية عام 2021، فبعدما فشلت فى التعاقد مع القنوات الخاصة لبث إعلاناتها خلال أحد أهم الأحداث الرياضية الأمريكية، اتجهت إلى «منصة الأحلام»، وقامت بإنشاء مقطع فيديو مدته 91 ثانية يحتوى على مناظر جبلية خلابة مع صورة للمشروب, ونصحت الشركة الملايين من متابعى الحدث الرياضى بمشاهدة الفيديو عدة مرات متتالية فى الليلة التى تسبق الحدث الرياضى، وحفزت المشاهدين بإعطائهم جعة مجانية إذا أرسلوا رابط الفيديو إلى صديق.
وبينما وصفت الشركة تجربتها بكونها «أكبر دراسة للأحلام فى العالم», وتفاخر نائب رئيس التسويق بابتكار دعاية لم يسبق لها مثيل، فقد أثار هذا النجاح مخاوف بعض الباحثين، الذين كانوا يعملون على هذا المشروع سنوات طويلة، بشأن خطط التسويق التى تهدف إلى تحقيق الأرباح على حساب الأحلام. لذلك فقد أطلق 40 باحثا أخيرا بيانا على الإنترنت، يدعون فيه للتعامل القانونى مع ما وصفوه بـ «التلاعب التجارى بالأحلام», وفقا لموقع مجلة العلوم «ساينس ماج».
«لا يمكن أن تصبح أحلامنا مجرد ملعب آخر لمعلنى الشركات»، هكذا يرى روبرت ستيكجولد، عالم الأعصاب من جامعة هارفارد ومؤلف مشارك لكتاب «عندما تحلم العقول»، حيث يقول إن السنوات العشرين الماضية، كانت نقطة تحول فى أبحاث النوم التى توصل العلماء خلالها إلى فهم أهمية النوم لذكرياتنا وصحتنا العاطفية. ومن خلال هذه العملية الليلية، يشكل الدماغ الذكريات التى توجد معا ماضينا وإحساسنا بمن نحن الآن، وفهمنا لكيفية عيش حياتنا بشكل أفضل فى المستقبل.
وأضاف روبرت، أن إعلان «حضانة الأحلام» ليس وسيلة للتحايل الممتعة، ولكنه «منحدر زلق» له عواقب حقيقية، فزرع الأحلام فى أذهان الناس بغرض بيع المنتجات يثير أسئلة أخلاقية مهمة، خاصة أن الخط الأخلاقى الذى يفصل بين الشركات التى تبيع الموسيقى التصويرية الهادئة للمطر لمساعدة الناس على النوم، وبين أولئك الذين يقومون بتضمين الأحلام المستهدفة للتأثير على سلوك المستهلك، غير واضح فى الوقت الحالى.
ويؤكد روبرت أن علم الدماغ قد ساعد فى تصميم العديد من التقنيات المسببة للإدمان، من الهواتف المحمولة إلى وسائل التواصل الاجتماعى، التى تشكل الآن جزءا كبيرا من حياتنا اليقظة، لذلك لا نريد أن نرى الشىء نفسه يحدث لنومنا. وأضاف روبرت «هناك حاجة ماسة لاتخاذ إجراءات استباقية وسياسات وقائية جديدة لمنع المعلنين من التلاعب بأحد الملاجئ الأخيرة لعقولنا الواعية واللاواعية المحاصرة بالفعل: أحلامنا».
ورغم مشروعية مخاوف العلماء، لكن هناك من يرى أن الأمر ليس بهذا السوء، ومنهم تور نيلسن، باحث الأحلام فى جامعة مونتريال، الذى لم يوقع على البيان، حيث أكد أن مثل هذه التدخلات لن تنجح ما لم يكن الحالم على دراية بالتلاعب وعلى استعداد للمشاركة. حيث يقول نيلسن: «لا أشعر بالقلق الشديد تجاه حضانة الأحلام، مثلما أشعر بالقلق من إمكان تنويم الناس ضد إرادتهم. فإذا حدث ذلك بالفعل ولم يتم اتخاذ أى إجراءات تنظيمية لمنعه، فأعتقد أننا سنكون فى طريقنا إلى دولة الأخ الأكبر، وسواء كان من الممكن تعديل أحلامنا أو لا، فمن المرجح أن يكون ذلك أقل ما يقلقنا».
رابط دائم: