رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

«إخضاع الكلب».. أو الوجه المخيف للحب (٢)

كل ما أريده هو الحب.. هكذا يقول هارون خادعاً نفسه, إلا إذا كان الحب هو استبداد المحب بالمحبوب، والاستيلاء الكامل عليه واحتكار ملكيته تماماً، والطاعة المطلقة لنا ممن نحب. لقد بدأ أحمد الفخرانى حكايته الجميلة والمفزعة, التى أعطاها اسم إخضاع الكلب, برجل مهزوم فى الحب وخائف من الحياة، واتضح لنا فى آخر الحكاية أنه كان خائفاً من نفسه, ومحقاً فى ذلك الخوف.

منذ بدايته، حتى قبل صدمته فيمن أحب وانهدام عالمه، كان هارون عبدالرحيم إنساناً هشاً خائفاً، لا من الكلاب فقط، بل من التورط العاطفيّ بكل أشكاله؛ من الاشتباك بالناس والحياة. كان فناناً يحب رصد الحياة, وتصويرها من مسافة آمنة، وأبدع فى ذلك من خلال عدسة الكاميرا: تلك الكوة الضئيلة المطلة على العالم والمختبئة عنه قى نفس الآن. فنجح فى التصوير الفوتوغرافى ولمع. لكن ذلك النجاح والبريق ورّطه بعد حين فى الحب والحياة, أعطاه زوجة جميلة وطفلاً, ونعمة أغرت به الشر فافترسه. لكن ذلك الشر لم يأتِ فقط من صاحب يحسده ويحقد عليه ويتمنى فى ضميره تدميره وزوال نعمته، بل جاء من صميم نفسه كما نكتشف فى آخر الرواية: من جنون التملك فى الحب، الذى يسلبه لبه فيصدِّق بسهولة خدعة صاحبه وعدوه سمير الضمرانى حين أوهمه أن زوجته باربرا تخونه معه, ونفث فى قلبه سُمَّ الشك فى أن طفله ليس من صُلبه. تلك الهشاشة الأصيلة فى نفس البطل المأساوى للحكاية جعلته هدفاً سهلاً للشر، وتلقِّى الطعنة التى كان نصفها من شر الناس ونصفها الآخر من جنونه وضعفه، فعزل نفسه تماماً عن الدنيا - كما رأينا فى المقالة السابقة - لكنّ الحياة القهارة تسللت فى النهاية إليه، وصحا الحب الغلاّب بكل ما يعتمل فى باطنه من صراع خفى على القوة والهيمنة, استيقظ وحش التملُّك من سُباته الطويل وتنامت شهوته بقوة مضاعفة، ليس فقط فى هارون، بل حتى فى محبوبه الجديد، الكلب ونيس، الذى تنبئنا الحكاية كيف أن غريزته الحيوانية الخام تحمل نفس نزعة الصراع - عبر الحب - على السيادة والغلبة والاستبداد بالمحبوب، وسائر ألعاب التسلط والسيطرة. إلا أن الحيوان المسكين, مهما أعطته الحياة من أسلحة المكر واللؤم والتوحش, لا يستطيع مجاراة إنسان استيقظ الوحش الكامن فى عتمته، وتطورت لعبة الحُب لديه إلى مرحلة التلذذ السادى بتعذيب المحبوب، والانتقام- عبر جسد الكلب وروحه- من كل آلام الماضى والحاضر ومن أشباح ما سيأتى. بل تعملق المارد المختل فى نفس هارون، فصار قاتلاً لكلاب مدينة دهب، بعد أن كان فى أول الحكاية يخشاها ويرتعب منها.

إن رواية إخضاع الكلب تحكى عن الشر الكامن فى الحياة، من خلال رصد ملامحه وتجلياته فى علاقات الحب، سواء بين رجل وامرأة، أو بين صديق وصديق، أو حتى بين إنسان وكلب. فتتجلى لنا من خلال العمل طبيعة الوجود القائمة على الصراع، لا فيما بين الناس والكائنات فقط، بل حتى بين مكوِّنات الذرة. وتسخر الحكاية بشكل غير مباشر من بطلها, الذى ظن أن بإمكانه أن ينأى بنفسه عن التورط فى ذلك الصراع الأزليّ, تسخر منه وترثى له فى الوقت نفسه، بلغة بالغة الرهافة والتقشف، وبشاعرية تخلو من كل أنواع الزخرف، ولا تحتاج إليه، لأنها تنفذ مباشرة إلى القلب الكهربيّ لذرة الوجود. ورغم الألم والفزع، يغمرنا جمال الصدق والبراعة فى رسم الحياة, دون ثرثرة وبأقل عدد من الكلمات أو ضربات الفرشاة, مثل خلاصة عطر الورد.. والشوك الذى فى الورد.


لمزيد من مقالات بهاء جاهين

رابط دائم: