الادب الروسى فى عيون القراء العرب يظل مرتبطا بأسماء الكثيرين من نجوم سالف العصور من أمثال ليو تولستوى وفيدور دوستويفسكى وغيرهما ممن تظل أسماؤهم لعقود، بل لقرون طويلة تتصدر قوائم المكتبات العامة والخاصة. ورغم ان المكتبة الروسية تظل تستقبل مع كل عام جديد، ما يزيد على المائة ألف من كتب الادباء والشعراء الجدد غير المعروفين بعد، فان أيا من أسماء هؤلاء لم يلق بعد الدرجة والمكانة التى ترفعه الى مصاف الاسلاف ممن يظلون يحتفظون لروسيا بمكانتها التى تستحق.
ورغما عن ذلك، فقد يكون من المفيد التوقف عند بعض الأسماء الجديدة التى نستهل تقديمها تباعا الى القارئ العربى، بالأديبة الروسية التترية الأصل جوزيل ياخينا، التى اقامت الدنيا فى روسيا ولم تقعدها بعد، منذ نشرها لرواية «زليخة تفتح عينيها» فى عام 2015. وكانت جوزيل افتتحت بهذه الرواية رصيدها الادبى شديد الأهمية، بعد سنوات من الحظر الذى حال دون ظهورها لسنوات طوال، حتى ظهرت الناقدة لودميلا اوليتسكايا لتكون اول من تحمس لها ولروايتها التى قدمتها للنشر فى مجلة «أضواء سيبيريا»، فى مدينة «نوفوسيبيرسك». وقالت اوليتسكايا (ان «زليخة تفتح عينيها» رواية تنفذ إلى القلب مباشرة، بما تستعرضه من احداث تتسم بقدر هائل من التأصيل والواقعية التى كثيرا ما يفتقدها ما صدر من روايات فى الفترة الأخيرة). ورغم أن هذه المجلة الأدبية كانت محدودة الانتشار، فقد لقيت الرواية أصداء واسعة النطاق، وضعتها فى صدارة قائمة الكتب الاوسع انتشارا والأكثر مبيعا، بما تثيره من قضايا كثيرا ما شغلت الملايين من أبناء التتار وتتعلق بمأساة نفى الكثيرين من الآباء والاجداد إلى سهول سيبيريا، فى ثلاثينيات القرن الماضى. وقد انطلقت الكاتبة فى روايتها مما ذاقه اسلافها، وتحديدا جدًتها ووالديها، من ويلات وآلام، وما كابدوه من مشاق ومتاعب طوال سنوات المنفى، بما ساهم فى اضفاء الكثير من الواقعية والاثارة على هذه الرواية، وما كان سبيلا إلى المزيد من الشهرة والانتشار بعد ظهورها كمسلسل متعدد الحلقات أذاعته القناة الأولى للتليفزيون الروسى. وقد لقيت هذه الرواية الكثير من تقدير النقاد وممثلى الأوساط الأدبية والاجتماعية، ممن وقفوا وراء منح الكاتبة الشابة جوزيل ياخينا اثنتين من أهم الجوائز الأدبية فى روسيا المعاصرة وهما جائزتا «الكتاب الكبير» لعام 2019، و«ياسنايا بوليانا» (نسبة إلى ضيعة الاديب العالمى الكبير ليف تولستوي)، فضلا عن اعجاب وتقريظ الألوف من قرائها، إلى جانب ترجمتها إلى 23 من اللغات الاجنبية.
ومن الأسماء الجديدة التى فرضت نفسها على عالم الادب فى روسيا، نشير كذلك إلى سيرجى بيلياكوف المتخصص فى التاريخ الذى بزغ اسمه لأول مرة فى عام 2013، بعد فوزه بجائزة «الكتاب الكبير» عن روايته «جوميليوف ابن جوميليوف». ومن اللافت أن الاسمين اللذين اختارهما المؤلف عنوانا لهذا الكتاب، هما نيكولاى جوميليوف الشاعر الروسى الكبير الذى أعدمه البلاشفة فى عام 1921 بتهمة التعاون مع السلطات القيصرية ضد البلاشفة وثورة أكتوبر، وكان زوجا للشاعرة الروسية ذائعة الصيت انا اخماتوفا، وابنه ليف جوميليوف المؤرخ الروسى والمستشرق الشهير المتخصص فى علم الاجناس. ولعله من المثير فى هذا الصدد ان ما كتبه سيرجى بيلياكوف يبدو أقرب الى ما قد يجوز تسميته «النثر الوثائقى»، أو ما يعنى كتابة السيرة الذاتية لاثنين من اهم رموز الشعر والادب فى مطلع القرن العشرين، فى إطار يمزج فيه الكاتب بين الخيال والواقع. ولذا لم يكن غريبا ان يصدر المؤلف كتابه الثانى تحت عنوان «ظل مازيبا»، الذى صدر أيضا «خليطا» من الادب بكل اطيافه، والتاريخ بالكثير من وقائعه وأحداثه.
وبهذه المناسبة نشير إلى ان هذا الكتاب ليس الأول من نوعه، حيث توالى ظهور كتب وروايات أخرى لمؤلفين اختاروا التخصص فى تأريخ السير الذاتية لعظماء ونجوم العصر، ومنهم الكاتب ديميترى بيكوف الذى اختار سيرة حياة «بوريس باسترناك» الشاعر والاديب الحائز على جائزة نوبل للآداب فى عام 1958 موضوعا لاحد كتبه الأخيرة. وكان باسترناك أعلن عن رفضه تسلم الجائزة بسبب ما اثارته روايته «دكتور زيفاجو» من جدل احتدم على مختلف المستويات، وضغوط هائلة مارستها السلطات الحزبية والأدبية فى الاتحاد السوفيتى، وهو ما دفع باسترناك إلى الإعلان عن رفضه لتسلم الجائزة.
ولعل ما أعقب ذلك التاريخ من احداث كان خليطا بين الثقافة والسياسة فى ستينيات وثمانينيات القرن الماضى يقول إن ما شهده الاتحاد السوفيتى وبلدان شرق أوروبا منذ ذلك التاريخ، كان فى مقدمة أسباب ذيوع وانتشار ما يسمى «النثر الوثائقى»، الذى اعتمدته اللجنة المنظمة لمنح جوائز «نوبل للآداب»، ضمن أسانيد منح الكاتبة الصحفية البيلاروسية سفيتلانا ألكسييفيتش جائزة نوبل للآداب لعام 2015، وهى التى لم يكن ثمة من يتوقع ان تحظى كتاباتها بمثل هذا التقدير العالى. ومن المعروف ان ألكسييفيتش كانت تخصصت أكثر، فى كتابة الموضوعات والتحقيقات الصحفية ذات الطابع الاجتماعى، وإن كانت الشواهد تقول إن الكاتبة الصحفية وخريجة كلية الصحافة فازت بجائزة نوبل للأدب، لأسباب تتسم فى معظم جوانبها بطابع سياسى، وهو سرعان ما تجلت نتائجه فى وقوف سفيتلانا ألكسييفيتش الى جانب المعارضة البيلاروسية فى محاولة الإطاحة برئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو فى صيف العام الماضى.
رابط دائم: