كان يعيش فى قصر منيف وأجرينا الحوار فى مسجد داخل القصر
فى شتاء العام 1993.. فى ذلك الصباح الذى لا يُنسى، لم يكن يدور بخلد الطالب الجامعى الشاب وقتها–كاتب هذه السطور الآن- أنه على بعد خطوات من تحقيق هدفه الذى سعى إليه وخطط له. كان الشعور داخله أن شيئا ما مفاجئا قد يعرقل مساره فى آخر لحظة. الهدف المقصود كان إجراء حوار صحفى لجريدة «صوت الجامعة» التى يصدرها قسم الصحافة فى كلية الإعلام بجامعة القاهرة مع رجل كان–وما زال حتى اليوم- ملء الأسماع والأبصار عبر العصور.. إنه الشيخ محمد متولى الشعراوى.
فى ذلك اليوم؛ توجهت مع زميلى فى الكلية أسامة غريب، عضو مجلس نقابة المهن السينمائية والمخرج التليفزيونى حاليا، الذى تولى مهمة تصوير الحوار فوتوغرافيا، وقطعنا «شارع الهرم» حتى آخره. وفى الموعد المحدد كنا نقف أمام بوابة القصر المنيف، حيث يسكن الشيخ. عبرنا البوابة، واتجهنا سيرا على الأقدام إلى المسجد الصغير الخاص به داخل القصر، تحيط بنا فى طريقنا زروع وزهور.. دخلنا المسجد فظهر أمامنا الشيخ الشعراوى لأول مرة.. رأيته.. يجلس ذات جلسته المعتادة فى برنامجه التليفزيونى الأسبوعى الشهير، متربعا على الأرض، يضع أمامه كتابا فوق عدد من الوسائد، وعلى يساره «أباجورة» تضيء له، وعلى يمينه جميع صحف الصباح فى ذلك الوقت.. سلمت على الشيخ واستأذنته فى الجلوس ثم بدأت حوارى معه.
كنت قد استعددت جيدا للحوار بالطبع، وذهبت حاملا أوراقى العامرة بكثير من القضايا والأسئلة؛ بعضها يتعلق بالشباب ومشاكل المجتمع وكيفية إيجاد الحلول لها، وبعضها الآخر–وكان هو الأهم بالنسبة لي- يرتبط بالسياسة، ومواقف الشيخ من قضاياها، وآرائه وتصريحاته المعلنة التى سبق أن أثارت الجدل حولها. كان هدفى أن أقطع مع الشيخ أطول مسافة ممكنة على طريق «الدين- السياسة»، وهو طريق وعر مليء بالمطبات، وربما كان ذلك سببا فيما اعترى مسار الحوار من تقلبات، عندما حاولتُ عبور الأسلاك الشائكة لاقتحام المناطق الملغومة فى القضايا المسكوت عنها غالبا فى «خطاب الشيخ الشعراوى»، خاصة أن زمن الحوار كان فى عقد التسعينيات، وما أدراك ما التسعينيات؛ فتن وإرهاب وسجالات، مما أثار غضب الشيخ أحيانا، أو استدعى صمته وإعراضه، قبل أن يعود إلى الحديث بادئا كل إجاباته بأسئلة استنكارية!.
والآن.. وبينما تحل الذكرى الثالثة والعشرون لرحيل الشيخ محمد متولى الشعراوى يوم 17 يونيو الجارى، فإننى أستعيد بعض وقائع هذا الحوار، الذى نُشر قبل ثمانية وعشرين عاما، وبالتحديد فى عدد شهر فبراير عام 1993 من جريدة «صوت الجامعة»، وكان من توابعه قيام الكاتب الصحفى إبراهيم عيسى بالتعليق على تصريحات الشيخ فيه، والرد عليها وقتها فى مقال ساخن بمجلة «روز اليوسف»، أعاد نشره بعدها ضمن كتابه «عمائم وخناجر».
سألت الشيخ الشعراوى عن موقفه من الأعمال الإرهابية التى كانت تُرتكب وقتها باسم الإسلام فى ديروط وأسيوط وامبابة، والتى خلَّفت عشرات الضحايا فى تلك العشرية الدامية.. واستمعت إلى ردوده.
قال: «يا سيدى الفاضل، هناك فرق بين أن ترى رأيا وتعلنه وبين أن تنزع إلى فرضه بالقوة وهذا هو الممنوع، والدليل على ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد قدَّر الأمور بقدرها حين قال: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده)، وحين يقول: (فمن لم يستطع) دلَّ على أن عدم الاستطاعة وارد وأن المسألة ليست حتمية، فمثلا ابنى يدخل فى حدود ولايتى ولذلك ممكن أضربه «وأطفَّحه الدم»، ولكن كل من ليس لى ولاية عليه أقدم له الكلمة الحسنة، فإذا تطاول عليَّ ورفضها يقول النبي: (فإن لم يستطع فبقلبه)، أى أن يكون تعاملك مع الشخص مرتكب المنكر تبعا لشعورك تجاهه وألا تكون منافقا، قال تعالي: (وإذا رأيت الذين يخوضون فى آياتنا فأعرض عنهم)، وعندما يجد المجرم نفسه مكروها من الجميع سيشعر بأنه قد سُجن عن الناس وهو وسطهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يضع سجنا ولكن عاقب المخطئ بعقوبة العزل الاجتماعى.. وهكذا فإن هذه الجماعات من حقها أن تعلن «رأى الإسلام» وأن تعمل ما تراه صحيحا، وأن تعظ الناس به، لكن ليس من شأنهم أن يحاولوا فرضه بالقوة».
لفت نظرى بشدة فى رد الشيخ ربطه بين تلك الجماعات وما قال إنه «رأى الإسلام»، فسألته عما نُسب إليه من تصريحات، فأوضح: «ما قلته هو أن آفة الذين يختلفون أنهم يأخذون جزءًا من الحق ويضيفون إليه أجزاء أخرى من الباطل». عدت لأسأله عن دور الأزهر فى المجتمع وكيف ينبغى أن يكون، فجاء رده سريعا: «أنتم مش قادرين على أنفسكم رايحين ترموا على الأزهر؟!.. قل لى أنت: هل يوجد حكم لا معرفة به؟!.. دور الأزهر الإعلام بالحكم وليس فرضه، فالرأى لمن يملكه لا لمن يراه، والفرد هو الذى يملك لا الأزهر ولا الحكومة.. فالحكومة لم تفرض على الناس الخمر ولا الرشوة ولا القمار، وهى لا تملك سوى الحدود، وهذا لا يمثل سوى 5% والشخص عليه 59%، والواقع أننا مش قادرين على أنفسنا ولا بيوتنا ورايحين بنرمى على الحكومة، طب ليه؟!».
وكان من التصريحات اللافتة للشيخ الشعراوى من قبل قوله إن «الأزهر ليس من حقه أن يقول رأيه فى معاهدة السلام مع إسرائيل لأن الرئيس السادات لم يتعهد بالحكم الإسلامى من الأصل»، حاولت سؤاله عن ذلك–تمهيدا لسؤال آخر أهم- لكنه قاطعنى بعد كلمتى «معاهدة السلام» مباشرة، قائلا: «هو أنت دخلت فيها بالإسلام؟!.. الدولة دخلت فى المعاهدة بعلمانية.. خلاص خليك علمانى.. عايز الإسلام ليه دلوقت؟!». والواقع أننى كنت مصرا على طرح سؤالى التالى فقلت: «نعم يا فضيلة الشيخ ولكن سؤالى أنه إذا كان السادات لم يتعهد بالحكم الإسلامى فلماذا قبلت العمل معه فى الوزارة؟».
لم أدرك حجم ما اقترفته بهذا السؤال إلا عندما وجدت الشيخ الشعراوى يقول: «أنا كنت قبلها فى الوزارة.. وبعدين أنتم حتقاضونى بقي؟!»، قبل أن يزم شفتيه ويشيح بوجهه ويشير بيده بما يعنى أنه لن يجيب عن السؤال، أو ربما كان يقصد أنه لن يجيب عن أى أسئلة أخرى، وأن الحوار قد انتهى!.
عندئذ.. وجدت الكاتب الصحفى الكبير منير عامر–وكنا قد وجدناه يجلس مع الشيخ عند دخولنا عليه- يتدخل فى الحديث بنبرته الهادئة قائلا: «فضيلة الشيخ رفض عضوية مجلس الشورى فى أول تأسيسه»، فردَّ الشيخ الشعراوى ساخرا: «كل ده لازم ينسوه طبعا!»، وواصل عامر: «فيه حاجة كلنا نسيناها.. فى أيام 18 و19 يناير 1977 خطب مولانا فى الحسين يوم الجمعة فى حضور السادات.. وكان كل رصيده فى البنك 11 ألف دولار علقها على حساب رعاية الفقراء.. أى أنه تنازل عن كل ما يملك لصالح الفقراء».
حاولت استغلال ما جرى من تلطيف للأجواء كى أستكمل أسئلتى، وقد أجاب الشيخ بالفعل، لكن كل الإجابات أصبحت تبدأ بسؤال استنكارى!.
سألت الشيخ الشعراوى عن سبب رفضه رئاسة حزب الأمة الإسلامية.. فقال: «حزب أمة إيه؟!.. أنا لا أدخل حزبا إلا فى دولة قالت أنا أوظف الإسلام.. أما الأحزاب فهى خاضعة لرأى البشر وأفكارهم»، فعدت لسؤاله عن رأيه فى عمل علماء الدين فى السياسة بشكل عام، قال: «سياسة إيه؟!.. هم عايزين يخلَّصوا كل ما يستطيعون تخليصه، يعنى لما يأتى قانون جديد مثلا يقعد كل واحد منهم (يهابش) عشان يقربه من الإسلام»، ثم أضاف بسخرية: «كتر خيرهم!».
»سؤال أخير يا فضيلة الشيخ».. جملة قلتها فى النهاية كى تكون جوازا للمرور إلى طرح سؤال مباشر يستهدف الحصول على إجابة محددة.. إذ قلت بعدها: «نريد معرفة موقفك من مشروع السلام الحالى مع إسرائيل».. لكن الشيخ الشعراوى قال: «أنا ماليش دعوة.. وإذا قلت موقفى سيغضبون منى.. ولكن ماذا أقول فى دولة تقول على نفسها علمانية وماليش دعوة بالإسلام؟!.. ألا يقول الفلسطينيون ذلك؟!.. يبقى أنا رأيى إيه بعد كده؟!».. وانتهى الحوار. ** محمد شعير **
والآن..
بعد 28 عاما من هذا الحوار النادر، العاصف، فإننا لا نقدم رأيا أو تعليقا حول ما ورد به من تصريحات، لكن يبقى أن نقول إن الاحترام واجب والتقدير موصول، سواء للشيخ محمد متولى الشعراوى وجهده الدعوى الطويل، أو لكل مجتهد أفنى عمره فى الدرس والبحث والتفسير، لكن الهدف دوما هو المراجعة والتحليل والتفكير. الهدف هو السؤال، والاستمرار دوما فى طرح الأسئلة، والبحث–فى ظل تغير الأزمان- عن إجابات متجددة، فالسؤال ليس حراما، إنما كى تطمئن قلوبنا، لعلنا نكون من المتفكرين المتدبرين.
رابط دائم: