رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

جامعة دينها العلم «2»

ويمضى عبد الخالق ثروت مُتحدثًا عن دلالات الاستنارة، ومعانى التقدم، وقيم العقلانية التى يحققها إنشاء الجامعة فى المجتمع، مؤكدًا أن حاجة الأمة إلى علماء راسخين فى العلم ليست بأقل من حاجتها فى الأزمان السابقة إلى مُتعلمين عاملين، وأن الوقت قد حان لتخريج شبابٍ يأخذون بيد الأمة ليُحلوها المحل الرفيع الذى يجب أن يكون لها بين الأمم الراقية، ذلك المحل الذى لن تصل إليه إلا إذا أقبل أبناؤها على العلم حبًّا فى العلم نفسه، ولم يقتصروا منه على النذر اليسير، بل يمضون قُدمًا إلى طريق التقدم الذى ليس له نهاية، فالأصل فى الجامعة هو البحث الدائم الذى يشيع نهم المعرفة التى لا نهاية لها فى كل نفس، حتى نفوس أولئك الذين يكتفون من الجامعة بأدنى أهدافها، وهو تخريج العمالة التقنية للأمة، ولذلك أكَّد عبدالخالق ثروت مقصده بقوله: «رأت الأمة أن العلماء فى البلاد الأخرى يكادون يأتون فى كل فرعٍ من فروع العلم بالمعجزات، فكم من مُبتكَرات تخالها خَلقًا سماويًّا جديدًا جاءنا خبرها من أوروبا وغيرها، ونحن نكتفى من ذلك البحر الزاخر بمصة الوَشَل! وكم من مُخترَعات مُبدَعات وآيات بينات فتح الله بها على أولئك العلماء وحظنا منها حظ المُتفرج. ولذلك: رأت الأمة أنه من النقص أن تبقى مصر عالة على الأمم بعد أن كانت تغنيها بالعلم والعرفان، وأن تظل فى مثل هذا العصر خلوًا من جامعة تصوغ لها طائفة تُمجِّد ذِكرها كما كان ذِكرها مُمجَّدًا فى ماضى الأيام والعصور الخالية... فلا جرم أن قامت قومةً واحدةً تدعو إلى إنشاء تلك الجامعة».

وتنتهى عبارات عبد الخالق ثروت من معنى الجامعة لتنتقل إلى الدور الذى بذلته الأمة فى تأسيس الجامعة، وكيف توجهت عناية أفراد الطليعة الغيورة من الرواد إلى العمل الذى كانوا أهلًا له، فتبرعوا بكل ما يستطيعون من مالٍ، وبكل ما يقدرون عليه من جهدٍ؛ لكى يحققوا حلم طليعة الأمة فى إنشاء الجامعة التى يكتمل بوجودها معنى التقدم الذى ينبغى أن تتصف به الأمة المصرية.

وبعد أن ينتهى عبد الخالق ثروت من كلمته ينتقل الخطاب إلى أحمد زكى بك (باشا فيما بعد) سكرتير الجامعة وأحد أعضاء مجلس إدارتها، فيُلقى خطابًا طويلًا يبدأ بقوله: «مولاى بلادك مهد الحضارة والعرفان... ويمضى أحمد زكى باشا فى الحديث عن المفاخر الإسلامية فى قديم الزمان، ومآثرها فى دولة الإسلام تمهيدًا لما ترتجيه من النجاح فى قابل الزمان، وفى إعادة العلوم إلى لسان العرب الذى وعاها واستوعبها فى أيام هارون والمأمون». ويمضى أحمد زكى (المسمَّى: شيخ العروبة فيما بعد) كاشفًا عن ثقافته التراثية الضخمة، وعن تحيزاته العربية الإسلامية فى الوقت نفسه، فقد تميز بحبه للعلوم العربية القديمة، وبشغفه بالمخطوطات. ويبدو أن اتجاهه الفكرى كان مُحافظًا تقليديًّا من وجهة نظر سعد زغلول، ولذلك كانت كلمة عبدالخالق ثروت الأقرب إلى مشاعر سعد زغلول، ودليل ذلك ما نقرأه فى: مذكرات سعد زغلول، خصوصًا فى الجزء الثامن منها الذى أشرف على تحقيقه: عبد العظيم رمضان. وفى هذه المذكرات يعقِّب سعد زغلول على الكلمات التى قيلت فى حفل الافتتاح، فيمتدح كلمة عبد الخالق ثروت التى رآها تليق بالمعنى المدنى للجامعة فى وعيه. ويصفُ كلمة أحمد زكى بأنها: كانت أثقل الكلمات على السمع، وأبعدها عن الموضوع، وأفرغها من حُسن الذوق؛ لأنه تكلم فيها عن الإسلام، ومجَّده بأمور مُتكلَّفة، ليس من اللياقة إلقاؤها فى افتتاح جامعة لا دِين لها إلا العلم.

وحين تصدر الكلمات الأخيرة عن رجلٍ بحجم سعد زغلول، أزهرى الأصل، فإنها تكشف عن دلالة الجامعة بالمعنى الذى قصد إليه أبناء الطليعة التى تكاتفت على إنشائها، وجعلها مؤسسة مدنية بكل معنى الكلمة. أعنى مؤسسة تختلف كل الاختلاف عن معنى الأزهر الذى يهتم بالعلوم الدينية، والذى ينبغى أن تكون الجامعة على عكسه تمامًا أو على النقيض منه تمامًا، فتهتم بالعلوم المدنية، وما يتفرع عنها أو يتصل بها من علومٍ طبيعيةٍ أو حتى علوم فكرية لا يُراد منها زيادة المعارف الدينية، وإنما زيادة المعارف العملية، وتطوير المعارف العلمية، والتقدم فى مجالات العلوم الفكرية التى تعتمد على العقل، ولا تلجأ إلى النقل أو حتى تعتمد عليه. فالعقل كالتجريب سُنَّته ومعياره واتجاهه، معرفة الحقيقة بعيدًا عن أى اعتبارٍ خارجى مهما كان، ولذلك كانت كلمة سعد زغلول شعارًا عندى للجامعة الحديثة بمعناها الذى يصفها بأنها: جامعة دينها العلم. وهذا هو الشعار الذى دافع عنه وعمل من أجله رجال مستنيرون من أمثال: عبد الخالق ثروت باشا، وعدلى يكن باشا، وسعد زغلول نفسه، والجيل الذى تأثر بهم إلى أن نصل إلى جيل طه حسين، ذلك الأزهرى العظيم الذى طرده الأزهر فلم يجد لنفسه ملجأ إلا الجامعة التى وجد فى رحابها متنفسه الحقيقى، فتنفَّس ما شاءت له قُدرته على تنفس الحرية، وتنسَّم المعنى الحقيقى لحرية البحث العلمى والمعنى الحقيقى لأن يكون الباحث حرًّا لا يقيده شىءٌ فى بحثه. ولا يوجد ما يحول بينه وبين حرية البحث التى ينشدها قيد باسم الدين أو العُرف أو العادات أو التقاليد.

ولكن السؤال الحرج: هل تحقق هذا الحلم حقًّا فى فترة تأسيس الجامعة وفى العقود الأولى من عملها؟ هذا هو السؤال الحرج الذى ينبغى أن نتوقف عنده، وأن نتأمل الدرس الذى نخرج به من معرفة ما انتهى إليه واقع الحال التاريخى من مفاجآت ومفارقات قد تصدمنا وتدهشنا.

(وللمقال بقية).


لمزيد من مقالات د. جابر عصفور

رابط دائم: