صار حل الدولتين عنوانا للمرحلة التى تلت حرب غزة الرابعة، بعد أن جرى ما جرى فى الحروب الثلاثة السابقة حينما نشبت الحرب لأن تناقضات القضية الفلسطينية باتت على حالها، وحينما استمرت أسابيع كان نصيب غزة منها التدمير ومعه تأتى إعادة الإعمار، ونصيب إسرائيل تدمير سمعتها السياسية والأخلاقية ومعه يأتى الاستعداد للدخول فى مفاوضات من نوع أو آخر. الوصول إلى هذه النقطة من استئناف عملية سياسية اشتهرت سابقا باسم عملية السلام هى محطة يمكن الوصول لها إذا دام إيقاف إطلاق النار، وجرت إجراءات تثبيته، وبدا على المشاركين فيه الاستعداد لاتخاذ خطوات من أجل بناء الثقة. ما نعرفه حتى الآن هو أن القاهرة سوف تكون المركز الذى تدور فيه، وتجرى فيه أحيانا، الاتصالات والتجهيزات للمرحلة المقبلة حتى نصل إلى النقطة التى يفتح فيها كتاب الحل. المطالب الفلسطينية الأولية معروفة لأنها تتعلق بالقدس وإيقاف العبث بها، سواء من خلال عملية التهويد أو تهديد حرية العبادة فى المسجد الأقصى, بقدر ما تتعلق بالمستوطنات وتوسعاتها خلال مرحلة التفاوض. غزة هى الأخرى لها نصيب من المطالب المتعلقة بفتح المعابر وإعادة التعمير. المطالب الإسرائيلية هى الأخرى معروفة، ومنها الخاص باستعادة جثتى جنديين قتلا فى حرب ٢٠١٤، وعودة إفرايم أفييرا مينجستو الذى دخل إلى غزة فى عام ٢٠١٤، وهشام السيد الذى دخلها فى عام ٢٠١٥، وكلاهما رهن الاحتجاز من قبل حماس. أما الأكثر صعوبة فهو المتعلق بمنع إعادة تسليح حماس مرة أخري، مع تعليق أو تجميد حفر الأنفاق المتجهة إلى إسرائيل. المرجح أن المطالب الإنسانية سوف تكون لها الأولوية التى تحسن مناخ المفاوضات خاصة مع استئناف بث الكهرباء والمياه إلى قطاع غزة، وبعد ذلك يمكن الولوج إلى القضايا الأكثر تعقيدا المتصلة بالتعمير الذى لا يريد أحد أن يجرى الاستثمار فيه من ناحية، بينما تأتى حرب لكى تدمر غزة مرة خامسة. القاهرة هكذا سوف تحمل هما دبلوماسيا وسياسيا ليس قليلًا خلال المرحلة المقبلة وسوف يتطلب الكثير من الزيارات والمباحثات الاستكشافية والاستطلاعية حول الكثير من التفاصيل والظروف الحرجة خاصة أن طرفى المعادلة الفلسطينية الإسرائيلية يعانيان عجزًا سياسيًا واضحًا. على الجانب الفلسطينى فرغم الكثير من محاولات المصالحة سابقا فإن الحقيقة هى أن الانقسام الفلسطينى متجذر، والسلطة الوطنية الفلسطينية الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى تواجهها سلطة حماس فى غزة بعلاقاتها الدولية والإقليمية المعروفة. وعلى الجانب الإسرائيلى فرغم وجود عنوان واضح لإسرائيل متمثل فى الحكومة الإسرائيلية الراهنة، فإنها فى الوقت نفسه مثل البطة العرجاء ليست قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة وهى تتأرجح ما بين البقاء فى ظل تحالف جديد أو العودة إلى انتخابات خامسة مرة أخري. على أى حال فرغم كل الصعوبات المتوقعة أمام مصر فإن هناك من ناحية قوة دفع كبيرة نتجت عن الحرب الأخيرة نجم عنها استعداد الكثيرين فى المحيط العربى والمجال الدولى خاصة الولايات المتحدة للإسهام فى السعى نحو حل لا يمنع الحرب فقط وإنما يقيم السلام أيضا الذى تتوق له شعوب المنطقة بعد عشر سنوات تقريبا من الحروب والتدمير والضحايا.
أيا ما كان الانشغال بتفاصيل التفاصيل خلال المرحلة المباشرة بعد إيقاف إطلاق النار، فإن القاهرة بخبرتها الكبيرة فى دبلوماسية السلام منذ بدأت فى أعقاب حرب أكتوبر ١٩٧٣، تعلم أن تحديدا لنهاية الطريق سيكون دائما الضوء الذى يسطع فى نهاية النفق ويرشد المشاركين إلى الطريق ويعطيهم الأمل فى إمكان السلام الدائم. حل الدولتين نعم هو عنوان المرحلة، ولكنه أيضا كان عنوانا متعدد الألوان خلال أكثر من أربعة عقود منذ أعلن الرئيس عرفات قيام دولة فلسطينية فى عام ١٩٨٨ مبشرا بوجود سياسى للفلسطينيين فى مواجهة الدولة الإسرائيلية. ولم يمض وقت طويل، وعبر مؤتمر مدريد، ومفاوضات أوسلو السرية، جرى الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية فى إطار ما بات معروفا ومباركا دوليا بحل الدولتين. وصل الحل إلى طريق مسدود فى مباحثات كامب ديفيد الثانية فى صيف ٢٠٠٠، واعترضته مواجهة الانتفاضة الثانية، وكانت آخر جولاته ما تمت بين الرئيس الفلسطينى محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلى إيهود أولمرت. بعث هذا التراث مرة أخرى لن يكون أمرا هينا خاصة أن الزمن لا يبقى شيئا على حاله. ومن ناحية فإن إسرائيل وقد طالت هيمنتها على الأراضى الفلسطينية يوجد فيها من يريد استمرار الوضع القائم، مع بقاء وجود لسلطة فلسطينية على التجمعات الفلسطينية الكبرى مع بقاء الجميع فى ظل أطر اقتصادية جامعة. وبين هؤلاء الخائفين من العامل الديمغرافى فى التزايد السكانى الفلسطينى فإنهم لا يمانعون فى نكبة فلسطينية جديدة ترحل الفلسطينيين إلى الخارج مرة أخري. وربما كان ما حدث فى القدس إرهاصات لهذا الاتجاه. ومن ناحية أخري، فإنه بين الفلسطينيين والإسرائيليين من باتوا مشجعين لدولة واحدة تعكس الأمر الواقع حاليا من سوق مالية واقتصادية وعمالية وجمركية واحدة؛ ولم يبق حتى تقوم الدولة إلا تحقيق المساواة الضرورية. ومن ناحية ثالثة يوجد من يجمع بين حل الدولتين وحل الدولة الواحدة فى إطار كيان سياسى كونفيدرالى واحد يمثل دولة فلسطينية مستقلة، ودولة إسرائيلية مستقلة، مع عاصمة موحدة هى القدس التى يديرها ويشرف على سكانها كيان منتخب كذلك الذى يشرف على الحياة فى المدن الكبرى فى العالم. التفكير فى كل ذلك يبدو بعيدا الآن، ولكنه لن يمكن تجاهله فى مراحل المفاوضات الأولي, كما أنه سوف يكون دعوة للتفكير فى المستقبل ليس فقط المتعلق بالفلسطينيين والإسرائيليين وإنما أيضا بمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط وشمال البحرالأحمر. وحينما يجرى إعادة التعمير فى غزة فإنه سوف يكون إلى جوار عمليتى تعمير هائلتين تجرى واحدة منهما فى سيناء شرق خليج العقبة، وتعمير نيوم والعلا فى غرب الخليج؟!
لمزيد من مقالات د. عبدالمنعم سعيد رابط دائم: