لـ.. الروائى البرازيلى الشهير باولو كويلو «قصة قصيرة» قال فيها كان الأب يحاول أن يقرأ جريدة لكن ابنه الصغير لم يكف عن مضايقته، وحين تعب الأب من مضايقات ابنه، قام بقطع ورقة فى الجريدة كانت تحتوى على خريطة العالم وفرقها إلى قطع صغيرة، وقدمها لابنه وطلب منه إعادة تجميعها (تجميع الخريطة)، ثم واصل قراءته للجريدة ظناً منه أن الطفل سيبقى مشغولاً طوال اليوم كى ينجح فى تجميعها. إلا أنه لم تمر خمس عشرة دقيقة حتى عاد الابن إليه وقد أعاد ترتيب الخريطة، فاندهش الأب وتساءل مذهولاً: هل كانت والدتك تعلمك الجغرافيا ؟؟ رد الطفل بالنفي.. ولكن قال له إنه كانت هناك صورة لإنسان على الوجه الآخر من الورقة، وعندما أعدت بناء صورة الإنسان، اكتشفت أننى أعدت بناء العالم..
هكذا قيمة الإنسان ودلالته وأثره باعتباره محور الكون والعالم، فكما تقول الفلسفة اليونانية الإنسان هو معيار كل شيء. إن أكثر الطرق قبولاً لتصنيف حقوق الإنسان هو الحق فى الحياة.. والعيش فى أمن واستقرار وعدم التعرض للمخاطر بدءًا من القهر والتعذيب وانتهاءً بالقتل وإنهاء الحياة..
لقد اعتمدت دول العالم وجميع منظماته الدولية وثائق حقوق الإنسان ووضعت المعايير الدولية التى تتناول الاحتياجات والطاقات البشرية المشتركة للإنسان فى كل مكان فى العالم.. سواء فى المناطق الفقيرة أو الغنية. إن قواعد حقوق الإنسان الفردية تسعى إلى حماية جماعات البشر وتعترف بحاجات الإنسان كاملة.. إن مبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية لبعض الدول من جانب دول أخرى هو أحد المبادئ الأساسية للنظام الدولى حسبما أرسى فى ميثاق الأمم المتحدة.. لكن تنامى الحركة الدولية لحقوق الإنسان والاتساع المطرد للمعايير الدولية لحقوق الإنسان أسفرا عن إقرار بأن ما يحدث من دولة ما تجاه دولة أخرى فى تشريد مواطنيها أو قهرها بأى طريقة كانت فإنها تندرج تحت النقد الخارجى من حكومات أخرى أو منظمات غير حكومية، وهذا لا يشكل تدخلاً فى الشئون الداخلية.. ولكنه يؤصل لتعزيز حماية جميع حقوق الإنسان. وهو ما لم يلتزم به العالم تجاه ما فعلته دولة إسرائيل... أسيرة مفاهيم صهيونية بالية اعتادت على انتهاك الإنسانية. فانتهاك حقوق الإنسان الفلسطينى تمتد بجذورها إلى العقيدة الصهيونية والأهداف التى حددتها منذ نشأتها التنظيمية وطبيعة الأهداف التى من أجلها قام الغرب بأكمله بتشجيعها.. والتى تتلخص فى طبيعتها العدوانية ومنطق القوة والغطرسة والتوسع والاحتلال والسياسات الاستيطانية بلا مراقب أو مسائل، والحرب الجماعية وعدم الاعتراف بأى حقوق سوى الحقوق الصهيونية فقط، عبر ممارسات القتل والاغتيال وإرهاب الجيران. وفقط كل ما يعنيهم هو إنقاذ أرض اليهود حتى باستخدام كل أساليب الغطرسة والسحق والإبادة للجيران. قادة إسرائيل الذين دخلوا سن اليأس ومعهم الحاخامات والصقور وبعض من يفكرون بكسب حرب سريعة تغير معالم المنطقة، باتوا يغامرون باستقرار المنطقة بإشعال النيران وإيقاظ قوى الحرب. يتعاملون وكأنهم القادرون على فرض مشروعهم الأخرق وتعزيز الحرب الاختطافية ويؤكدون أن دولتهم فوق القانون وترسخ لمعاداة الإنسان.. وهذا عبر سياسات التشريد والتجويع والتخويف لأطفال عزل.. وهم بذلك يوسعون الهوة بين قوى السلام والتسويات السياسية العادلة إلى مخزونات ثأرية تاريخية كوسيلة لتأمين السلامة الذاتية وإجبار قوى السلام على التراجع والقبول بالواقع.
يحاولون إطالة الحرب لتعد تمريناً جيداً على تمكين قوى الداخل الإسرائيلى من استثمار بث الرعب فى نفوس الإنسان الفلسطيني. يغذون طموح صقور الحرب فى كل جانب (إسرائيليا كان أو حمساويا) يرسخون منطق القوة وتتشكل هواجس الانتحار البطيء..
ولكن جاءت مرطبات الكلام لإطفاء نيران حرب تسعى إليها إسرائيل وأطراف أخرى، هذه المرطبات تجسدت فى مبادرة مصر ـ السيسى عبر جهود دبلوماسية مضيئة تبنت وقف إطلاق النار بين الجانبين واستئناف مفاوضات السلام وإعادة إعمار غزة وتقديم المساندة والدعم اللازمين للشعب الفلسطينى كما هو المعتاد عبر تاريخ مصر الإنساني. هنا جسدت مصر فلسفة الحفاظ على الإنسان وأكدت أن الإنسان هو معيار كل شيء وهو أصل البناء والتقدم وأن الدفاع عن الإنسان بكل الوسائل المشروعة والتى أقرتها جمع المواثيق كفيلة بالتخلص من مغامرين ووكلاء حرب وسماسرة بورصة مزايدات سياسية، والمساهمين فى شراكات التدمير. لكى يدفع الأثمان كل من هو بريء ومدني. مبادرة «مصر ـ السيسي» هى فى جوهرها هدم لقوى الحرب وإخراس أجراسها لأن الوعد الصادق هو سحق أمن الإنسان الفلسطيني، ورفض إيقاع الرعب الذى تبثه ماكينة سياسيين ينتمون لأيديولوجية قديمة وبالية ومدمرة للإنسان. لم تكتف مصر ـ السيسى بالنحيب والحسرة والشجب، بل بادرت وفعلت وتحركت وتعاطفت بعقلانية وجسارة مع الإنسان إيماناً منها بأن الإنسان هو أساس كل الحضارات البشرية، هو المادة الخام لكل تقدم بشري. جميل أن يموت الإنسان من أجل وطنه ولكن الأجمل أن يحيا من أجل هذا الوطن.
ولن تبدو الصورة أكثر غموضاً من أى وقت مضى، إذ لن يعود البحث فى قضايا عقائدية لم تكن فى الحسبان.. آن الأوان أن تتجاوز إسرائيل الاعتماد على التفسيرات الدينية والتى تعتبرها من أسس قيامها.. ولا يمكن المخاطرة بحياة شعب بكامله تحت الأسر والجور والجوع.. آن الأوان أن تتجاوز قوى الحرب فى إسرائيل ومن يغذيها من أى جانب (أياً ما كان) انها دولة معسكرات تجميع يحكمها أيديولوجيا العنف والكره للجيران والإنسان.. آن الأوان أن تكون هناك حقوق مشروعة للإنسان الفلسطيني.. كإنسان أولاً ومواطن ثانياً.. وهذا ما أكدته، مبادرة مصر ـ السيسي.
لمزيد من مقالات صبرى سعيد رابط دائم: