البعض يعتبره واحدا من أعظم رجال الدولة فى العصر الحديث وأخرون ينظرون اليه على أنه مجرم حرب، إنه هنرى كيسنجر وزير خارجية ومستشار الأمن القومى السابق بالولايات المتحدة، والذى احتفل منذ أيام قليلة بذكرى ميلاده الثامنة والتسعين. هو كيسنجر الحاصل على جائزة نوبل للسلام نتيجة جهوده فى إنهاء حرب فيتنام، و لكن المسئول أيضا عن توسيع نطاق الحرب والكارثة الانسانية المرتبطة بها. هو أيضا مخترع سياسة الخطوة خطوة فى دبلوماسية الصراع العربى الإسرائيلى، والتى ساهمت فى التوصل الى اتفاقيتى فض الاشتباك بين مصر وإسرائيل ومعاهدة السلام بعض ذلك، ولكن أسهمت أفكار كيسنجر أيضا فى استمرار القضية الفلسطينية بعيدة عن حل نهائى استنادا لفكرة الخطوات التدريجية. كيسنجر أيضا هو صاحب توجه الانفتاح الأمريكى على الصين والتعاون معها، والذى ينتقده البعض الآن باعتباره المدخل الذى أسهم فى صعود الصين ومنافستها للولايات المتحدة على المسرح العالمى.
أيا كان التقييم السياسى لدور كيسنجر كوزير للخارجية ومستشار للأمن القومى فى عهد الرئيسين نيكسون وفورد، والذى ترك مناصبه الرسمية فى بداية عام 1977، الا أن كيسنجر أستاذ العلاقات الدولية والمفكر الاستراتيجى مازال يعيش معنا حتى اليوم بعطائه الفكرى المستمر، حتى وقد اقترب عمره من قرن من الزمن.
منذ نحو سبعة أعوام، و مع بلوغه 91 عاما، أصدر كيسنجر كتابا جديدا هو رقم 17 فى سلسلة كتبه، وحمل عنوان النظام الدولي، تناول فيه بالتحليل عددا من التحديات على رأسها مايتعلق بطبيعة الدولة، باعتبارها الوحدة الأساسية لهذا النظام، والتى تتعرض لقدر كبير من الهجوم بل والتفكيك، فبالإضافة لسعى البعض لتجاوز مفهوم الدولة، نجد أن العديد من الدول تتفكك إلى مكونات طائفية وعرقية ودخلت فى صراع مع بعضها بعضا، وفى عدة أجزاء من أخرى العالم شهدنا، منذ نهاية الحرب الباردة، ظاهرة الدول الفاشلة، وظهور ما يعرف بالفضاء غير المحكوم وهى مناطق داخل الدول، ولكن فقدت فيها الدولة احتكارها لاستخدام القوة. هناك أيضا التحدى المتعلق بالتعارض بين منطق المؤسسات الاقتصادية والمؤسسات السياسية فى العالم، حيث أصبح النظام الاقتصادى الدولى ذا نزعة عالمية، فى حين أن البنية السياسية للعالم بقيت على أساس الدولة القومية. وكذلك التحدى الخاص بعدم وجود آلية فاعلة للتشاور أو التعاون بين القوى الكبرى بشأن القضايا المهمة، فعلى الرغم من وجود عدد كبير من المحافل المتعددة الأطراف مثل مجلس الأمن الدولى والاتحاد الأوروبي، واجتماعات قادة آسيا والمحيط الهادئ، ومجموعة الثماني، ومجموعة العشرين. فإن طبيعة هذه الاجتماعات تتعارض مع مسألة وضع إستراتيجية بعيدة المدى، حيث يتم استهلاك وقت كبير فى المناقشات حول جدول أعمال الاجتماعات، أو يركز القادة على القضايا ذات التأثير على الرأى العام، أو تتحول إلى مناسبات إعلامية.
كيسنجر، الواقعى، تحدث دائما عن أن أى نظام دولى يجب أن يقوم على الاعتراف بالدولة باعتبارها الوحدة الأساسية فى النظام، و امتناع الدول عن التدخل فى الشئون الداخلية لكل دولة، والحد من طموحات الدول لبعضها بعضًا من خلال إنشاء نظام لتوازن القوة فيما بينها.
فى ذكرى مولده الثامنة والتسعين أدلى كيسنجر بعدد من الأحاديث الصحفية التى عرض فيها مجموعة من الأفكار حول الأوضاع العالمية المعاصرة. منها حديثه عن تأثير جائحة كورونا وتأثيرها على الاستقرار السياسي، ويشير كيسنجر الى أنه إذا نجح التطعيم فى تقليل حدوث المرض ، فسيتم اعتبار الوباء فى الغالب على أنه مشكلة صحية تم التغلب عليها، و لكن إذا ظلت العدوى مرتفعة لفترة طويلة، فإننا سنشهد أزمة ثقة فى القادة والمؤسسات.
وعن العلاقة بين الحلفاء، تحدث كيسنجر عن أنه اذا لم تعد أوروبا وأمريكا إقامة علاقة مكثفة عبر الأطلنطى، فإن أوروبا ستنتهى كملحق لآسيا، وأنه لا يجب استنفاد طاقة أوروبا فى صراع حول كيفية تحديد الأهداف المشتركة، ولا يتعين الاتفاق فى كل قضية محلية ، ولكن يجب أن يكون لدى الاوربيين والامريكيين مفهوم مشترك للاتجاه الذى نريد أن تسلكه منطقة المحيط الأطلنطى، تاريخيًا واستراتيجيًا.
أما بالنسبة للصين، فيتحدث كيسينجر عن أنها كانت دولة رئيسية منذ آلاف السنين، وفى عهود تاريخية مختلفة. وبالتالي، لا ينبغى النظر الى صعودها على أنه أمر مفاجئ، ولكن لأول مرة فى تاريخها، تواجه الولايات المتحدة بلدًا يتمتع بقدرات متشابهة فى الاقتصاد ، وبمهارة تاريخية كبيرة فى إدارة الشئون الدولية، ولم يكن هذا هو الحال مع السوفيت. وهناك فرق كبير بين التصور الصينى للتاريخ والتصور الروسي. كان القادة الروس تاريخياً غير آمنين، لأنهم أمضوا تاريخهم فى الدفاع عن أنفسهم ضد أعداء محتملين من جميع الجوانب. لذلك ، منذ أن أصبحت قوية، حددت تأثيرها بالسيطرة الفعلية. الصين لديها وجهة نظر أكثر تعقيدا. فمن وجهة النظر الكونفوشيوسية، التى تشكل التفكير الصينى جنبًا إلى جنب مع الماركسية الصينية ، فإنه إذا قامت الصين بأداء الحد الأقصى من قدراتها ، فستولد سلوكًا مهيبًا سينتج عنه الاحترام وزيادة القبول فى بقية العالم وليس بالضرورة السيطرة والصراع. و يشير كيسنجر الى أن المحور الرئيسى للتنافس بين الصين والولايات المتحدة هو التكنولوجيا وخاصة ما يتعلق بالذكاء الاصطناعى، وهنا يجب على البلدين السعى للتعايش وليس الصراع، وأن هذا التحدى الرئيسى فى عصرنا.
باختصار مازال كيسنجر قادرا على توليد الأفكار المهمة الجديرة بالمتابعة حتى وهو يقترب من إتمام قرن من عمره.
لمزيد من مقالات د. محمد كمال رابط دائم: