رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

2ـ فى الذكرى المئوية لميلاد تمثال «نهضة مصر»

إذا كان تمثال «نهضة مصر» تعبيرا عن النهضة المصرية الحديثة وتجسيدا لها، فهو بهذا المعنى تعبير عن موهبة صانعه وعن ثقافته. لأن النهضة التى عبر عنها التمثال هى النهضة التى رآها مختار وتمثلها وانفعل بها. ولنبدأ فى هذه المقالة بالتمثال لنرى النهضة كيف تمثلت فيه وتجسدت، على أن يكون مختار هو موضوع المقالة القادمة.

نحن نرى أول مانرى مصر التى عادت للحياة فى هذا العصر شابة قوية فتية مكتملة بتاريخها كله، بحاضرها الذى لاينفصل عن ماضيها، وإلا فالانفصال عن الماضى انفصال عن الحاضر تفقد فيه الأمة وعيها بكيانها، وتستسلم لغيرها كما حدث لمصر فى العصور الماضية التى مرت عصرا بعد عصر وقرنا بعد قرن دون أن يتقدم مصر واحد ليقود بلاده فى طريق الحرية. ومن هنا كان علينا أن نسترد الماضى وننتمى لتاريخنا كله لنسترد وعينا بأنفسنا، وننتزع حقنا فى الحرية.

ونحن نرى أن تاريخنا الحديث كان نضالا متصلا على هاتين الجبهتين: ماضينا الذى كنا نكتشفه ونتعرف عليه، وحاضرنا الراهن الذى كنا نسترد فيه استقلالنا ونبنى دولتنا الوطنية.

وهذه هى مصر كما رآها محمود مختار فى تمثاله.

أبو الهول الذى يمثل الماضي، والفلاحة التى تمثل الحاضر. والحقيقة أن الفلاحة ليست حاضرا فقط، ولكنها حاضر وماض فى وقت واحد، لأنها الأصل أو الأم التى أنجبت الماضى والحاضر. وكذلك أبو الهول الذى جاء من الماضي. لكنه مازال قادرا ـ كما نرى على أن يخاطبنا ويثير اعتزازنا بحضارتنا القديمة ويلهمنا ما نستطيع به أن نواصل ما بدأه أجدادنا، وهذا ما عبر عنه أمير الشعراء فى قصيدته التى قال فيها:

أبا الهول أنت نديم الزمان

نجيُّ الأوان سمير العُصُر

بسطت ذراعيك من آدمٍ

ووليت وجهك شطر الزمُر

تطل على عالم يستهلُّ ... وتوفى على عالم يحتضَر

فعين إلى من بدا للوجود... وأخرى مشيعة من غبر

ونحن نرى أن ما قاله شوقى فى قصيدته هو ما قدمه مختار فى تمثاله. فأبو الهول فى تمثال مختار هو الحضارة المصرية التى بدأت فى فجر التاريخ ولاتزال تكشف عن أسرارها وتبهرنا وتبهر غيرنا حتى الآن. ونحن فى تمثال مختار نرى جان فرانسوا شامبوليون، هذا الفرنسى المعجزة الذى استطاع أن يحل ألغاز اللغة الهيروغليفية ويقرأها بعد ألفى عام من رحيل الجيل الأخير الذى كان يتكلمها. وبهذا الكشف العبقرى أصبح فى قدرتنا أن نتجول فى تاريخنا القديم نطالع صفحاته ونتابع سنواته، ونحس كأننا فى دورنا بين أهلنا وذوينا.

ولقد كان شامبوليون فى العاشرة من عمره عندما أطلعه قريب له كان ضابطا فى جيش بونابرت على نسخة من حجر رشيد الذى استولى عليه الإنجليز فوجد نفسه مسحورا بهذه الكتابة الغريبة مشدودا لها كأنه وجد فيها سره المكنون الذى أصبح عليه أن يعرفه وأن يكشفه، وهكذا أخذ يستعد فيتعلم العربية والسريانية والحبشية ويتقن القبطية إلى الحد الذى جعله يقول: «أصبحت قبطيا لدرجة أننى أترجم إلى هذه اللغة كل مايمر فى خاطرى وأنى أتكلم القبطية مع نفسى فليس حولى أحد يفهمها». وهكذا أخذ يسير خطوة بعد خطوة حتى استطاع فى النهاية أن يقرأ الهيروغليفية وأن يتوج مسيرته بالرحلة التى قام بها لمصر وتنقل فى أنحائها باحثا عما قرأ عنه فى النصوص القديمة التى اطلع عليها. وكان لايزال يواصل عمله الجبار حين دهمه المرض الذى قضى عليه وهو فى الحادية والأربعين من عمره.

ونحن فى تمثال مختار نرى رفاعة رافع الطهطاوى أول مصرى فى هذا العصر يقرأ تاريخ مصر القديم ويتعرف على حضارة أجداده ويحدثنا عنها بفخر واعتزاز.

ونحن فى تمثال مختار نقرأ فتوى الإمام محمد عبده التى عادت بها الروح لفن النحت وللفنون التشكيلية التى حرمت وحوربت فى مصر وفى غير مصر بفتاوى الفقهاء القدماء الذين ظنوا أن التماثيل لاتنحت إلا لتكون أصناما! وقد تصدى الأستاذ الإمام لهؤلاء بفتوى أصدرها عندما زار جزيرة صقلية ووقف أمام آثارها يتأملها ويرى كيف عبر فيها من صنعوها عن أفكارهم ومشاعرهم، وكيف نقلوا فيها صور العالم الذى عاشوا فيه لنراه بعدهم ونتأمله.

بقول ما معناه إن حكم الإسلام فى النحت وفى الرسم هو حكمه فى الشعر. فالنحت أو الرسم ضرب من الشعر الذى يُرى ولايُسمع، والشعر ضرب من الرسم الذى يُسمع ولايري. وكما أن الإسلام لايحرم الشعر فهو لايحرم النحت إلا حين يكون التمثال صنما معبودا، أما حين يكون تصويرا لكائن أو تعبيرا عن موقف أو عن شعور فهو فن ممتع مفيد.

ولاشك فى أن هذه الفتوى المستنيرة كانت إشارة من إشارات البدء استطاعت بعدها الفنون التشكيلية أن تمد يدها لأصحاب المواهب، وأن تجد الجمهور المتفتح المتحرر القادر على التذوق والفهم بعيدا عن الفتاوى المتحجرة.

وكما نرى محمد عبده فى تمثال مختار نرى فيه قاسم أمين، فالفلاحة فيه هى المرأة الجديدة التى بشر بها قاسم أمين ودعاها لأن تتحرر وتتعلم وتؤدى دورها فى المجتمع كما تؤدى دورها فى الأسرة. والفلاحة إذن فى التمثال هى هدى شعراوي، ودرية شفيق، وهى النساء اللائى خرجن فى ثورة 1919 يتظاهرن ضد المحتلين الانجليز ويهتفن للاستقلال والحرية.

وفى تمثال مختار نرى المصريين البسطاء الذين تسابقوا هم ونساؤهم وأطفالهم للتبرع بما فى جيوبهم إسهاما فى توفير المال اللازم لاتمام العمل فى التمثال. وفى هذا التمثال نرى سعد زغلول ومكرم عبيد، ونرى الهلال والصليب يتعانقان.

وفى تمثال مختار نرى ثورة 1919 بكل ما تحقق فيها. وهذا التمثال الذى خطرت فكرته لمختار فى العام التالى للثورة إنجاز من إنجازاتها. ونحن بكلمة واحدة نرى النهضة فى هذا التمثال العظيم.


لمزيد من مقالات بقلم ـ أحمد عبدالمعطى حجازى

رابط دائم: