أن تنظر بموضوعية معناه أن تحمل ميزان العدل، وأن تتجرد أكثر لترى بإنصاف، وهذا معناه أيضا أن نمعن النظر، ونتأمل فى واقعنا، وأن نعبر الجسر معا، حيث مغادرة النفق والوصول إلى أول العالم.
نحن فى لحظة بناء على مستويات متعددة، حركة محمومة فى الدولة المصرية، لم تشهدها منذ الستينيات تقريبا، وهى لا شك مغايرة عما كان فى طبيعة الظرف السياسى والثقافي، وفى الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية، وفى اللحظة العالمية ذاتها، وتمتاز الآن بأنها حركة حذرة، تدرك الفخاخ والمؤامرات، وتعرف تشابكات العلاقات وتعقيدات الظروف الإقليمية والدولية.
ثمة يقظة تمثل ضرورة حتمية نراها متجسدة فى ملفات عديدة، تثبت أننا أمام دولة عميقة المعنى والمبنى، قدرتها الحقيقية تكمن فى تكامل مؤسساتها الوطنية، حيث قلبها الصلب وروحها التى لا تفتر ولا تلين، وتتعزز تلك القدرة للأمة المصرية فى تلاحم شعبها مع دولته فى المواقف المفصلية وفى غيرها، فى أن تكون مع الحق، والخير، والجمال، فى أن تكون مع النهر، والحضارة، والتاريخ الحي.
إن ما تفعله مصر الآن هو بناء للقوة الشاملة، على مسارات متعددة، بدءا من المسار الاقتصادى الطموح الذى يبغى فى نهاية المطاف الوصول إلى رقم لا يمكن تخطيه فى معادلات الاقتصاد العالمي، وأن تكون جزءا فاعلا من حركة الاقتصاد العالمي، وليس تابعا ينتظر القروض والمنح، مع عوامل الثقل التاريخى للدولة المصرية، والدور المحورى فى المنطقة، يعززان معا استنهاض الدور السياسى القوى والمؤثر، الذى بدت معالمه فى مناطق عديدة وفى محطات متتابعة تلت ثورة الثلاثين من يونيو 2013، حيث استعادة الدولة المصرية ذاتها، والخلاص من حكم جماعة دينية متطرفة، حاولت أن ترهن حاضر البلاد لمصلحة الماضي، ثم تعزيز الأمن الداخلي، ومجابهة التنظيمات الإرهابية التى خرجت من رحم الإخوان، وصولا إلى تحقيق الاستقرار الذى كان لازما ولا غنى عنه لاستعادة الاقتصاد المصرى عافيته من جديد، وكانت الملفات الخارجية من فك الارتباطات بين قوى الإرهاب فى الخارج وممثليها فى الداخل، وتعزيز حدودنا فى الغرب والجنوب والشمال، والحفاظ على الأمن القومى المصرى وجعله بوصلة رئيسية للأداء المصرى الخارجى رفيع المستوى.
بدا الدور المصرى الأخير فى الملف الفلسطينى والوصول إلى التهدئة وإيقاف الحرب على غزة، تكريسا للدور المركزى للدولة المصرية فى المنطقة والإقليم ككل، وتعبيرا عن المسئولية التاريخية والقيمية للأمة المصرية صوب محيطها العربي.
إن دولة تبنى قوتها الشاملة على المسارين الاقتصادى والسياسي، ثمة عراقيل توضع أمامها، ولا أريد أن أقول مخططات تهدف إلى تعطيلنا عن غاياتنا المركزية فى الذهاب بعيدا، بما يليق بقيمة مصر وأهلها، ورغم هذه العراقيل الموضوعة منذ سنوات، والتى صار بعضها تعبيرا عن حتمية الوجود على غرار ملف المياه، فإننى أثق فى قدرة الدولة المصرية وخبرتها وقدرتها على الدفاع عن حقوقنا وأمننا المائى الذى هو سر حياتنا وحضارتنا.
ثمة مسار مهم يتصل ببناء الإنسان ذاته، هو المسار المركزى فى صناعة القوة الشاملة التى تعنى قوة السلاح والاقتصاد والسياسة، ونحن قطعنا أشواطا عديدة فى هذا السياق، وقلبنا الصلب محفوظ بمحبة المصريين وعزيمة الأبطال.
فى بناء الإنسان الذى هو مركز بناء قوتنا الشاملة، يجب أن يكون المسار الثقافى والفكرى حاضرا فى تعزيز ثقة الإنسان بنفسه، ومنحه المعرفة التى هى أصل القوة، وتحرير عقله من الأوهام والمبالغات والخرافات، وتحرير روحه من المرارات والسخافات والضغائن، كى يصير المرء إنسانا وكفى.
تتعدد صور المثقف وتتنوع، وكم من كتابات ومؤلفات عديدة سيقت فى هذا الاتجاه، كان إدوارد سعيد حاضرا فى متنها بكتابه اللافت صور المثقف، وكانت ثمة كتب أخرى عن آخر المثقفين ودور المثقف وغيرها، كان هناك راسل جاكوبى وكتابه نهاية اليوتوبيا، وكان كتاب جوليان بيندا خيانة المثقفين، كان الرطان ممتدا ولا يزال بفعل سطوة الأيديولوجيا وتحولات النخبة، وصعود الاتجاهات الأصولية، وتنامى نزعات التطرف، والعنف بتنويعاته اللفظية والمادية، والانتقال من عالم الحداثة إلى ما بعدها، وسقوط المقولات الكبرى، أو هكذا تم تسويق الأمر، كل شيء كان معدا لاستقبال خطاب جديد، عدا المثقف نفسه الذى صار بعض ممثليه تابعين للاتجاهات الرجعية فى العقل العام، وهذا يوجب أن يكون العقل العام جزءا من بناء جديد، الذى يعد المثقف أحد صناعه وممثليه والمعبرين عنه بالأساس. وحيث يجب أن تكون شجاعا وحرا وتستخدم عقلك بنفسك، أى أن يكون التنوير الحقيقى بوصلتك الأساسية، حيث القدرة على إنتاج أفكار جديدة، ومعاينة عالم فى قلب الأزمة، كى يعانق أفقا حرا وإنسانيا ووطنيا ونزيها وجميلا ورحبا، تتماهى فيه جدارة الإنسان مع كرامة الأوطان، وروح البناء مع روح العمل، والتسامح مع المحبة، والسلام مع العدل، والتنوير مع البصيرة، والقوة مع الحقيقة التى عبر عنها أدبنا المصرى القديم بكونها قادرة على أن تطفو على السطح دائما مهما يطل حبسها فى الأعماق.
لمزيد من مقالات د. يسرى عبد الله رابط دائم: