«وحين رفض أنور السادات قميص الحديد الذى صنع له ولشعبه، لم يجد نفسه وحيدا، وإنما مرة أخرى تحرك شعب مصر بسرعة...» كان هذا وصف الكاتب الكبير ورئيس تحرير صحيفة «الأهرام» فى حينه محمد حسنين هيكل لما جرى قبل خمسة عقود من وقائع ما يعرف تاريخيا بـ « ثورة التصحيح» فى مايو 1971.
واعتبر هيكل فى هذه الافتتاحية المنشورة بعدد 11 يونيو 1971، تحت عنوان «طاقة مدهشة» أن مجريات تمرد السادات على «قميص الحديد»، ومن قبلها وقوع نكسة 1967 هما: «فى أربع سنوات تجربتان فى غاية الخطورة. وفى غير مصر بدون شعبها كان يمكن لما حدث أن يأخذ طريقا آخر يؤدى إلى سراديب اليأس الأسود، أو ربما إلى حمامات الدم الأحمر».
أما «النكسة» فبدايتها المتحدية ونهايتها الحاسمة المنتصرة للحق، فمعروفة. ولكن مسألة « قميص الحديد» هذه، أو «ثورة التصحيح»، أو ما اصطلح على وصفه بصراع السادات مع «مراكز القوى»، قد لا يكون حاضرا فى الذاكرة بالقدر ذاته. وإن كانت خطوة بالغة الأهمية بالنسبة لتكريس العهد الساداتى وجمع الخيوط فى يديه تمهيدا لإطلاق معركة التحرير فى الوقت وبالكيفية التى يراها مناسبة بعد تحييد ضغوط «الحرس القديم» كما وصفهم هيكل.

كاريكاتير صلاح جاهين المنشور بتاريخ 18 مايو 1971
اتحاد الجمهوديات العربية:
كان لما يعرف بـ «ثورة التصحيح» أدوات استخدمها الرئيس السادات، وكشف عنها فى خطابه الشهير يوم 15 مايو والذى استمر 90 دقيقة بلغة عامية، يتخلله مخاطبة مباشرة لعدد كبير من القيادات التى أسقطتها « ثورة التصحيح». ومنهم، كان نائبه وقتها على صبرى، ووزير الدفاع محمد فوزى وسامى شرف (سكرتير الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ووزير شئون الدولة فى بداية عهد السادات) وشعراوى جمعة (نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية وقتها)، ومحمد فائق ( مدير مكتب الرئيس جمال عبدالناصر للشئون الإفريقية ووزير الإعلام فى عهده)، ومحمد لبيب شقير، وزير التعليم العالى، ومحمد حلمي السعيد وزير الكهرباء.
ومن هذه الأدوات، كان الخلاف بين السادات من جانب، وقيادات الدولة، وتحديدا داخل اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكى من جانب آخر بخصوص مشروع قيام وحدة عربية ثلاثية بين مصر وسوريا وليبيا، والتى كان يفترض أن تنضم لها السودان وقتها. ولكن الوحدة الرباعية تم تأجيلها بعد اعتذار الرئيس السودانى حينها جعفر النميرى (1930-2009)، متعللا بالأحوال غير المستقرة بالسودان والتى كان قد تولى أمورها منذ عام 1969.
«اتحاد الجمهوديات العربي» والذى لم يتم تطبيقه نهاية الأمر لخلافات تالية بين الدول الثلاثة، قدمه السادات كامتداد لرؤية الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وميثاق التحالف المصرى والليبى والسودانى الموقع عام 1969.
كان جانب كبير من قيادات الدولة حينها يزرن الاتحاد «التفافا» على الرغبة فى التسريع بإطلاق معركة التحرير، خاصة مع ما اتضح من اتجاه السادات إلى تمديد العمل بمبادرة روجرز، نسبة إلى وزير الخارجية الأمريكى وليام روجرز (1913- 2001) صاحب مبادرة وقف إطلاق النار بين الجانبين المصرى والإسرائيلى والتى بدأ العمل فى نهايات عهد الرئيس جمال عبدالناصر، وتحديدا فى 23 يوليو 1970.
وفقا إلى السادات الذى كان قد عاد لتوه من زيارته إلى بنغازى، والتى انتهت بتوقيع اتفاق «دولة اتحاد الجمهوريات العربية»، فقد عرض الاتفاق على اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكى، ليلاقى معارضة شرسة من جانب على صبرى، وصفها السادات فى خطابه، المنشور نصه بالأهرام: «بأسلوب يختلف تماما عن الأسلوب الذى كان يتبع أو جرت عليه العادة.. أسلوب يهدف إلى الهدم.. لا إلى الاختلاف فى الرأى». ورد السادات بآنه «طلب إلى اللجنة العليا نقل الموضوع إلى اللجنة المركزية التى شهدت خلال المناقشة – من بعض الأعضاء - مشاهد مؤسفة، لا تليق ولا تتفق مع مسئولية الكراسى التى يتحدثون من فوقها، واتضح أن كل ما دار كان معدا ومرتبا»
جدل «الدولة الاتحادية» دفع السادات إلى اقتراح الاحتكام للشعب فى إجراء انتخابات شاملة وعامة بالاتحاد الاشتراكى «من القاعدة إلى القمة»، لتحقيق ما وصفه السادات بالتفاعل الكامل بين «الشعب والاتحاد الاشتراكى»، خاصة أن السادات وصف الأخير بأنه الصيغة الأنسب لتمثيل مختلف فئات وأطياف الشعب المصرى فى إدارة العمل السياسى.
زيارة المجهول صاحب الأشرطة
ثانى الأدوات التى استخدمها السادات فى تحركه ضد «قميص الحديد»، كانت مسألة رسول «الشرائط»،. وكان لهذه الأداة وقع خاص، جانب كبير منه يرجع لسمات تقديمها والتى لم ينقصها الغموض. ففى خطاب 15 مايو الافتتاحى للحركة أن زائرا لمنزل السادات قد هبط عليه فى الساعة الواحدة صباحا، وأوضح السادات أنه فى العادة ما يستقبل الزائرين إذا ما كان جدوله ينقصه اجتماعات أو التزامات ملحة، ولكن بالطبع ليس الواحدة صباحا!
انتهت مفاوضات الزائر الشاب مع حرس الرئيس على أن يتم تسليم الأخير شريطين، وقد قام الرئيس، الذى كان قد عاد لتوه من زيارة للجبهة ولقاء إيجابى مع «أولاده»، وفقا لتعبير السادات، بالاستماع فورا للشرائط التى حوت محادثة هاتفية لأحد أعضاء اللجنة المركزية بالاتحاد الاشتراكى.
كانت تلك بداية اكتشاف السادات: «وجود أجهزة للرقابة على التليفونات.. وأن أحد هذه الأجهزة موجود فى وزارة الداخلية- عند شعراوى جمعة (وزير الداخلية وقتها)، كما كان هناك جهاز آخر عند سامى شرف (وزير الدولة وقتها والسكرتير السابق للرئيس جمال عبدالناصر) وجهاز آخر فى المخابرات العامة، وكان كل جهاز يعمل لحسابه، وقد وجدت آلاف الشرائط المسجلة.. حتى فى غرفة مكتبى ببيتى .. كان فيها جهاز تسجيل للتجسس على كل اجتماعاتى ومقابلاتى».
ولاحقا كشفت «الأهرام» بتاريخ 17 مايو وفى سياق مانشيت صفحتها الأولى المزيد: «السادات يكشف عن الزائر المجهول حامل الأشرطة». وكشف الرئيس السادات - حسب الأهرام - فى لقائه بـ 500 ضابط من مختلف الرتب فى منزله ضمن توافد ممثلى مؤسسات وأجهزة الدولة لإبداء الدعم للسادات فى «ثورة التصحيح»، عن مزيد من تفاصيل لقائه مع الضابط حامل الشرائط، قائلا: «الضابط الصغير إللى تطوع علشان يجيب الأشرطة وعلشان ينقذ بلده وقال أنا مالى مطالب وأنا مالى شيء ولا أنت تعرفنى ولا عاوز حاجة. الضابط الصغير ده ضابط بوليس». قبل أن يؤكد لضيوفه: «أن مهمتكم هى الحفاظ على الشعب وصيانة سلامة الوحدة الوطنية وأن مهمتكم فى الجبهة الداخلية توازى مهمة ضباط الجيش فى جبهة القتال».
إحراق أشرطة التسجيل
وكان يوم 15 مايو قد جاء، وعبر صفحات الأهرام، بالإعلان عن المصير المنتظر للشرائط المصادرة، وذلك تحت عنوان: «إحراق أشرطة التسجيل فى فناء وزارة الداخلية»، وذكرت التغطية: «أعلن الرئيس أنور السادات أنه سيتولى بنفسه الإشراف على إحراق آلاف الأشرطة التى عثر عليها وتحمل تسجيلات مكالمات تليفونية لآلاف من المواطنين ولم يكن الهدف منها دواعى للمصلحة الوطنية. وسيتم حرق هذه الأشرطة فى فناء وزارة الداخلية».
وبالفعل وفى عدد الأهرام الصادر بتاريخ؟ من يونيو 1971، كان المانشيت: «السادات تولى بنفسه أمس إحراق أشرطة التجسس على المكالمات التليفونية» و«عملية الإحراق تمت فى فناء وزارة الداخلية واستمرت أكثر من ساعة بحضور عدد كبير من المواطنين».
وتوضح التغطية،التى جاءت مصحوبة بصورة للرئيس السادات يلقى إلى النار أشرطة وملفات تضم «تفريغ» المكالمات المسجلة، أن عملية الإحراق التى تم الإعداد لها من جانب رجال الإطفاء كان مقررا لها أن تتم أساسا داخل برميل، ولكن أتضح أن «البرميل» المعد لن يستوعب كل المواد المراد حرقها، ليتم على عجل تشييد «جورة من الطوب»، لتكون مسرحا لعملية الحرق، بحضور عبدالقادر حاتم، نائب رئيس الوزراء ووزير الإعلام، وممدوح سالم وزير الداخلية، واللواء أحمد إسماعيل، رئيس المخابرات العامة. والأهم، أن تغطية «إحراق الأشرطة» جاء مصحوبا بخبر يؤكد صدور تعليمات بمنع مراقبة التليفونات إلا بأمر من القضاء وبعد تقديم الأسباب التى تدعو للمراقبة وتحديد المدة.
اجتمعت الأدوات فى أيدى السادات ليبدأ أولا بمطالبة وزير الداخلية شعراوى جمعة على خلفية «أزمة الأشرطة» بالاستقالة، لتصله سلسلة من الاستقالات التى رأى السادات أنها كانت تهدف إلى القضاء على استقرار الجبهة الداخلية وخلق أزمة دستورية تقوض محاولته للقيادة، قائلا عبارته الشهيرة «أرادوا باستقالاتهم المفاجئة إحداث انهيار دستورى فى البلاد فلم يصنعوا إلا زوبعة فى فنجان». ولكن السادات عاجل بطرح خطاب 15 مايو وبدء حملة تحقيقات واسعة انتهت بسلسلة من الاتهامات لأقطاب «مراكز القوى» بالسعى للانقلاب على الرئيس، ومهدت للمحاكمات والأحكام التى زجت بـ «مراكز القوى» وراء القضبان لسنوات طويلة. ولهذه المحاكمات تفاصيل وحديث أخر فى حلقة أخرى من « وفقا للأهرام»

السادات يتوسط مشهد حرق أشرطة وملفات «مراكز القوى» - صور أرشيف الأهرام
رابط دائم: