أعتقد أن الحوار بين البشر مصدره علم إلهي، فالخالق تبارك وتعالى هو الذى علم الإنسان فن الحوار، وهو الذى تنازل بجلاله وسعى إلى الإنسان خليقته، وأقام معه حواراً على مدى التاريخ، وأمده بالوحى الإلهي، فليست الكتب المقدسة إلا حواراً بين المطلق وبين المحدود، بين الأبدى وبين الزمني، بين القيم الروحية والمثالية وبين واقع الإنسان ومسيرته على الأرض.
إن الحوار علاقة رائعة بين الإنسان والإنسان، أنه خروج عن الذات للقاء الإنسان الآخر ، خروج من دائرة ثقافتى الشخصية وتجربتى الذاتية وإيمانى الخاص ، لملاقاة فكر وإيمان الإنسان الآخر، بالحوار يصبح الإنسان أكبر من ذاته، يتقبل فكر الآخر وذلك أمر يثريه وينمى شخصيته، ولن تكون صادقاً فى حبك إلا إذا عرفت الآخر وتبينت وجدانه وأحاسيسه وثقافته.
وليست هناك حضارة أقامتها أمة بمفردها، فكل الحضارات هى من صنع شعوب الأرض ، متضامنة ، يغلب على ملامحها عبقرية شعب من الشعوب ،فيطلق اسمه عليها حضارة فرعونية أو يونانية أو عربية، والحضارات تتناسل كما يتناسل البشر وفق قانون التطور والتاريخ، إن بذور الحضارات فى كل الشعوب وفى كل مناطق العالم ، فليست الأمم شاءت أم أبت إلا أسرة واحدة تتفوق أمة وتحمل مشعل الحضارة لكنها دوماً تستعين بالتراث الإنسانى الذى سبقها وبالقيم التى تسود المجتمعات الأخرى، فالحوار متصل بين الثقافات وبين الحضارات، لم ينقطع خيطه ، وقدر البشر أن يرتقوا معاً أو يتعذبوا معاً ، وليتنا ندرك أن الكرة الأرضية ليست ملكاً لأمة أو لثقافة أو لحضارة بل هى ملك للبشر كافة، والحوار فى حد ذاته ثقافة وتقدم وسبيل إلى توحد البشر وتضامنهم.
والأديان مصدر من مصادر الثقافة فالدين جزء لا ينفصل عن التراث، وهذا الأمر لا يقلل من شأن الدين أو ينقص من تأثيره فى الحياة، أثر تأثيراً متصلاً فى كل الصراعات بين الشعوب بل ربما كان أحد أسباب اشتعالها، وهو بعض من نسيج الوجدان الإنسانى ولذلك تبدو الدعوة إلى الحوار بين الثقافات كأنها دعوة أيضاً إلى الحوار بين الأديان، وللحوار قواعده وأسسه وشروطه، منها الاحترام المتبادل للثقافة والمشاعر، والاحترام لا يعنى زوال الاختلافات فى الرأى وإنما يتطلب القدرة على الإصغاء إلى الفكر الآخر، والإقرار بما هو إيجابى وإنسانى فى مختلف الثقافات ، إن هدف الحوار تحقيق التضامن بين البشر من أجل الحرية والعيش الكريم والخروج من الجهل والظلم وإسقاط الأفكار المسبقة عن الثقافات المغايرة والسعى لاكتشاف الحقائق، وأنا أحب غاندى الإنسان الهندوسى وليس معنى ذلك أن أؤمن بما يؤمن أو أن أعبد ما يعبد.
هذه المنطقة العربية هى مهد ومركز الحضارات القديمة، بلا منافسة، أدت دورها فى تشكيل التاريخ البشري، وأمدت الإنسانية بالمعارف والخبرات والحكمة على مدى قرون طويلة ، فإن كانت الحضارة الفرعونية قد اكتشفت وحدانية الخالق وسر عطش الإنسان للخلود والأبدية ونقشت على جدران معابدها: أيها الإله الأوحد، أنت الوجود قبل الوجود «كتاب العبور إلى النهار أو كتاب الموتى» ورفضت أن يكون مصير الإنسان كمصير المخلوقات الأخرى، وتركت تراثاُ وآثاراً تشهد بعبقرية العقل البشرى حتى ذكر الكتاب المقدس أن موسى النبى تعلم الحكمة من مصر «أعمال الرسل 7 : 22» وتأدب موسى بحكمة المصريين كلها, كذلك أعطتنا الحضارة الأشورية قانون حمورابى أول دعوة للعدل والمساواة وتوالت الحضارات التى أحصاها أرنولد توينبى ثلاثين حضارة، هى جهد الإنسان فى السعى إلى النور والحق.
هذه المنطقة انطلقت منها الأديان الإبراهيمية: اليهودية – المسيحية – الإسلام، ومازالت تزخر بتراث روحى يعطى للحياة معناها السامي، كما لا تزال متأثرة أشد التأثر بتاريخها الديني، وتحتفظ بتنوع وتعدد يمد البشرية بثراء دائم فى الفكر.
وهذه المنطقة تحاول أن تخرج من قيود العصور الوسطى وتقاليده الراسخة فالصراع فى أعماق إنسانها بين نهم للحضارة والتقدم والحداثة، وبين خضوع للقديم ورؤاه وأطيافه ، وفيها تناقض صارخ بين غنى وثراء مادى وبين فقر شديد، بين ترف ورفاهية مسرفة وبؤس سحق الإنسان أحياناً، تتأرجح بين الأبدى والمطلق وبين الزمنى والمتعة.
هذه المنطقة غالبية سكانها من الشباب، فى صورة تلفت النظر لأن عمر نصف السكان أقل من ثلاثين عاما، أنه عامل يدعو للتفاؤل فى المستقبل ومن جهة ويدعو للخوف والقلق من جهة أخرى، إن الحاجة شديدة الإلحاح إلى رؤية ومنهج وجهد يستوعب شبابها ويفجر طاقاته للإبداع والترقي، وهذه المنطقة يختلط فيها الفكر الدينى بمنهج الحياة والثقافة والسياسة والاقتصاد إن عليها أن تعطى للإنسان قيمته وللحياة كرامتها ومعناها وأن تسهم فى بناء الحضارة المعاصرة بإعلاء شأن العقل والفكر والثقافة فما زالت الأمية منتشرة إلى حد مخيف.
لقد قال أحد الفلاسفة: إن الجمال دليل على وجود الخالق، والثقافة طريق لاكتشاف الجمال، وإن كان العدل أساس الملك على حد تعبير ابن خلدون نضيف إلى ذلك إن العلم أساس السلام.
حوار الثقافة ليس أمراً ثانوياً، أو ترفاً عقلياً، بل هو ضرورة حيوية لتقارب البشر، وتضامنهم، واتساع الآفاق لكشف الحقيقة والجمال ،هل سنظل نحرث الغيب وأمور الروح وهذا أمر غيبى أم نلتفت إلى حرث الأرض والطبيعة واكتشاف كنوزها الدفينة، أنى أعجب أشد العجب ، كيف لا يخرج لقاح ضد وباء كورونا من منطقتنا العربية التى تمتلك عقولاً رائعة، وأطباء عباقرة، أهى قلة المال السائل، أم عجز عن المغامرة واقتحام الصعاب، أم مازلنا ننظر إلى الغرب فى شيء من الإحساس بالضعف والدونية؟ كنت أتمنى أن يخرج من مصر لقاح نتيجة أبحاث علمائنا وهم كثر، هل العيب فى منظومة التعليم أم فى استسلامنا لفكر العصور الوسطى ونلتحف بثوب الدين وما هو بدين أو عبادة أن نخشى البحث واقتحام المجهول .
لم نعد نسمع تهديداً بالحرب بين الأمم إلا ما ندر ومعنى ذلك أن الأسرة البشرية فى طريقها للنضج والحكمة وهى التى عاشت مسيرتها تتخبط فى حرب إلى حرب، تارة باسم السياسة، أو باسم الدين، أو باسم مصالح الحكام، فسالت الدماء أنهاراً وكم شقيت البشرية من هول ما حدث فى الحروب، إنى أتفاءل أمام مستقبل يعم فيه السلام شعوب الأرض ولنعطى الجهد الأعظم للبناء والتعمير والزراعة والرقي، ولتذهب إلى الجحيم هذه الأسلحة المدمرة المكدسة والتى سلبت مال الشعوب، إنى أثق أن البشرية ستمضى قدماً فى طريق الحوار.
لمزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته رابط دائم: