رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

حارس الذاكرة
نبيل حنفى محمود.. أن يجمع الناس على محبة أحد

سعد القرش

قليل من الناس حظوظهم فى الدنيا عظيمة. هذه الحظوظ لا تزيد على محبة كل من يراهم، وتتعمق المحبة بالزمن والتجربة. إذا صادفك واحد من هؤلاء فلا تفرّط فى صحبته، اعتبره هبة، هدية. لا تكن بخيلا؛ فتستأثر به. دُلّ غيرك عليه، كما دلّنى أسامة عفيفى على الدكتور نبيل حنفى محمود، فاتصل الودّ حتى الأيام الأخيرة. مودّة لم تتأثر بوجودى فى موقع أو خروجى منه. قاسمنى فى المحبة كل من عرفوا رجلا قسّم حياته قسمة غير عادلة، ولا تخلو من إخلاص، وفاءً لتخصصين لم يجد بينهما تناقضا: الهندسة الميكانية فى جامعة المنوفية، وتقصّى تاريخ الغناء والموسيقى العربية، من زرياب حتى نهاية الستينيات.

يعيش حراس الضمير كالرهبان، فى استغناء الزاهد بزهده، واستعلائه على إغراءات إعلامية لا تليق بقيمة العلم ووقار العلماء. هكذا غادرنا الدكتور نبيل، يوم الأربعاء 5 مايو 2021، فى صمت جليل، وترك سيرة مشرّفة تلخّص صفات النبل، والإيمان بشرف العمل، مدفوعا بهمّة القادم من زمن آخر، يعى معنى أن يكون الإنسان أستاذا جامعيا لا يرتزق من تجارة المذكرات، وأن يظل نظيف اليد واللسان، قريبا من طلاب الدراسات العليا، ومشرفا على الرسائل العلمية. ساعدته على بلوغ هذه الدرجة من النزاهة استقامة أخلاقه، وتحقّقه فى مجال آخر أوصله إلى قاعدة أكثر اتساعا تشمل القراء والمتخصصين فى تاريخ الموسيقى العربية. هواية أخذها بالجدية القصوي.

فى ديسمبر 2015 أغضبه مقال لناقد موسيقى كبير كتب أن فيروز هى الوحيدة من المطربات اللبنانيات الشهيرات فى نجاحها من دون الإقامة أو المرور بمصر، فاقترحتُ على الدكتور نبيل كتابة الصفحة الأخيرة لمجلة «الهلال»، وتفرغ ليالى ينقّب فى مقتنياته من المصادر والمراجع، للتثبت من المعلومة. وكتب تحت عنوان «فيروز فى مصر.. صفحة مجهولة» عن مشاركة فيروز فى حفلات بحديقة الأندلس فى 13 مايو، و6 يونيو، و14 يونيو 1953. وصباح السبت 2 يناير 1954 قدمت الإذاعة المصرية، للمرة الأولي، أغنية لفيروز، وكانت «يابا لالا». وأما أغنيتها الأكثر شهرة فهى قصيدة «سوف أحيا» لمرسى جميل عزيز، وأذيعت يوم الخميس 5 مايو 1955.

بأسي، كان يشكو إليّ تعرّض كتبه للنهب، هو الذى يأتى من شبين الكوم، ويقضى يوما فى دار الكتب، يتحرى معلومة قد تشغل سطرا، ولا يجازف بإثباتها أو نفيها إلا ببينة. ويقتبسها بذكاء لصّ محترف، وينقلها حرفيا لصّ أرعن، وكلاهما يتجاهل ذكر المصدر. مثلا: عبد الحميد توفيق زكي، مسئول برنامج «ركن الأغانى الخفيفة» الخاص باكتشاف المواهب، اكتشف صوت عبد الحليم شبانة، ولحن أغنيته الأولى «ذكريات»، وأذيعت مساء الاثنين 5 مارس 1951. ولحن زكى قصيدة «تهاني» لمحمد عبد الغنى حسن، فى مدح الملك فاروق، وهى الأغنيته السابعة لعبد الحليم، وأذيعت مساء الخميس 3 مايو 1951، ضمن برنامج خصص للاحتفال بعيد الجلوس الملكي.

كنت أعزيه بكلمات ساذجة عن تهافت من يقتطعون تفاصيل لا ينسبونها إليه، وصمود الحقيقة أمام مكر اللصوص وصلف المدّعين، وأستعجل مشاريعه، وخصوصا كتابه عن أعلام التصوف، وقد نشر فصوله بانتظام فى مجلة «التصوف الإسلامي»، بحماسة من رئيس تحريرها الصديق أحمد شامخ. وآمل صدوره لينضم إلى كتبه: «نجوم العصر الذهبى لدولة التلاوة»، «أئمة وشعراء غنائيون»، «الغناء المصري.. أصوات وقضايا»، «العصر الذهبى للغناء المصري»، «هكذا غنى المصريون.. الأغانى المصرية فى المناسبات الدينية والسياسية»، «فريد الأطرش ومجد الفيلم الغنائي»، «معارك فنية». وكان «فصول من تاريخ الغناء المصري» آخر كتبه، وأصدرته هيئة الكتاب، فى سلسلة «تاريخ المصريين»، وحالت ظروف كورونا دون أن يأخذ حقه.

كان يشكو أيضا ندرة الكتب العلمية، رغم كثرة حملة الرسائل العلمية فى الكليات العملية، فيضطر إلى إعادة طبع كتب قديمة، فى سلسلة «الثقافة العلمية» التى يرأس تحريرها وتصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة. ولم يشغله ولعه بتاريخ الغناء عن رسالة العلم، فصدرت له كتب: هى من أجل ثقافة علمية»، «العلم بين الواقع والخيال».. كيف نقرأ المستقبل؟»، «مصر ومثلث التلوث». والتفرقة بين إنجاز الدكتور نبيل حنفى محمود فى المجالين، العلمى والبحثى الأدبي، تقول إن الأول رسالة تخص المستقبل وتسهم فى إعداد كوادر علمية، والثانى يشبع حنينه إلى الفنون والآداب، عشقه المبكر، منذ سحرته الأفلام، والنهم بالقراءة. وفاجأنى باقتراح نشر رواية «المهرّبون» لهيمنجواي.

كيف فاتنى أن لهيمنجواى رواية بهذا العنوان التجاري؟ وفى الزيارة التالية أعطانى رواية عنوانها «المهرّبون»، ترجمة نور الدين مصطفي، أصدرتها «روايات الهلال» فى أكتوبر 1961. وحين قرأتها تبيّن لى أن «المهرّبون» هو العنوان الملائم، الأكثر دقّة، من عنوانها الأصلى «أن تملك وألا تملك»، وأن السينما الأميركية أنتجتها فيلما يحمل عنوان الرواية «To have and have not»، عام 1944. بحثت عن المترجم؛ من أجل حقوقه، كما فعلت مع الأستاذ الدسوقى فهمي، مترجم رواية «أمريكا» لكافكا، عندما أعدت نشرها عام 2016. لم أجد مترجم «المهرّبون»، وأصدرتها «روايات الهلال» فى يناير 2017. وأهديت الدكتور نبيل نسختين من الطبعة الجديدة؛ عوضا عن بهدلة نسخته.

أعاد الرجل الاعتبار إلى جوانب منسية فى تراثنا الموسيقى والغنائي. فى كتابه «فصول من تاريخ الغناء المصري» يكتب بمتعة ومحبة عن محمد عثمان، وشهرزاد، وأحلام، ويوثق الخطوات الأولى لبليغ حمدي، منذ قدمته الإذاعة المصرية، للمرة الأولي، مطربا فى التاسعة من صباح الاثنين 25 أبريل 1955. قدم بليغ أغنية «الطير العاشق» التى كتبها عبد الفتاح مصطفى ولحنها الدكتور يوسف شوقي. وفى الساعة التاسعة أيضا، بعد يومين اثنين، غنى فى الإذاعة أغنيته الثانية «يا فجر»، للمؤلف والملحن نفسيهما. وبعد أسبوعين شارك بليغ كلا من كارم محمود ومديحة عبد الحليم والمجموعة فى أداء أغانى برنامج «قرية الجن»، شعر أحمد شوقى وألحان يوسف شوقي.

فى تلك البواكير بلغ رصيد المطرب بليغ سبع أغنيات تخلو من الخصوصية. وباستثناء جرأته، «كانت له نفس طريقة مطربى الفيديو كليب الحاليين فى مطّ بعض الحروف وإخراجها من غير مخارجها الصحيحة». وربما أدرك تواضع إمكاناته الصوتية، فسارع إلى تصحيح مساره، «وتحول إلى الجانب الثرى من تلك الهِبات الربانية»، وأصبح بليغ حمدى الذى نعرفه، منذ ابتكاره اللحنى لموسيقى أغنية «ليه فاتنى ليه» التى كتبها محمد حلاوة، وغنتها فايدة كامل، وأذيعت فى 1 يونيو 1956. ولا يسمح مقام الحزن بالاستفاضة، وإنما يدعونى إلى الترحّم على المؤلف، أحد حفظة الذاكرة. وبوفاته يضيق العالم، فلا يُجمع الناس على محبة أحد، إلا لو أنه نبيل.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق