يرتبط العيد عندى بالبدايات: الطفولة المبكرة, الصباح المبكر, القلوب التى لم يسجل عدّادُها إلا دقات أولى قليلة، قياساً بملايين الدقات التى تراكمت الآن وأنذرت باقتراب موعد انقلاب العدَّاد, العقول، تلك الكاميرا الربانية المذهلة، التى لم تلتقط بعدُ كثيراً من صُوَر يتم تحميضها سراً، ليزورنا بعضها فى الأحلام، متسربلاً بعباءة الخوف أو مغسولاً فى ندى العمر الغض والسنين التى نعدها بالكاد على نصف أصابع يدنا اليمني, الأهداب، حين ترتعش لأشعة شمس الصباح الندي، فتتفتح على بهجة العيد: الصورة المغبشة بفعل آثار النوم الذى لم يذهب تماماً بعدُ عن عيون الطفل، أو بفعل ذاكرة الكهل المطل من بُعد أكثر من نصف قرن بكثير، أو بفعل ارتعاش البهجة فى قلب الولد الصغير وفى أهدابه, صورة سرير الجدة الواسع الكبير، وحجرة نوم الجدة ذات السقف العالي، ودولابها الكبير ذى المرايا المزدوجة، ووجه الجدة الطيب, المجبول من معدن الحنان والأمان، ثم الريال الفضيّ, حيث تتركز فى بريق استدارته بهجة العيد. وتلك البدور الأخرى المرشوشة بالسكر، والمحشوة ملبناً أو عجمية، أو رفيقتها المرشوقة بلوزة فى أيام العز، أو المستغنية عن لوزتها حين يعز النُّقل، وهى لا تحتاج لأى حشو، لأنها ناعمة تذوب فى الفم وتترك فيه حلاوة عجيبة نجربها للمرة الأولى أو الثانية فى عمرنا الذى يُعَدّ على بعض أصابع اليد الواحدة, اليد الصغيرة التى تكتشف لمس الأشياء، وبالكاد تمسك بقرص الغريِّبة الناعم، الذى صنعته يد الجدة فى جوقة من نساء البيت ونساء الجيران، يفترشن الأرض وينهمكن فى لت العجين السحرى وتقريصه ونقشه بالمناقيش، وصَفِّه فى صاجات سوداء تذهب للفرن الإفرنجى لتُخبز هناك وتعود فى زفة لا تنقصها إلا الزغاريد لتكون عُرساً من الفرح، الذى لا يذوقه على أصله إلا قلب طفل. وقديماً قال شاعر، كان يحمل فى قلبه طفلاً مشاغباً ورقيقاً وفرحاً يحب اللعب أتشرف أننى انحدرت من صُلبه - قديماً قال فى أغنية له: يا برتقان احمر وبدمُّه/ قول للى حابس دمُّه يا دمُّه/ العيد دا للأطفال يا بو عَمُّو/ عايز تعيِّد خليك طفل..
ومن بيت العيد إلى شارع العيد، مرتع لعب الأطفال الذى لا يهمد أو يكلّ، خاصة فى الأعياد، حيث تحتدم سيمفونية اللعب والضجيج الطفليّ، ويتآلف ويتألف عزفها المتناغم حتى فى صياحه وصراخه النشاز: من كُرات تُركل وأقدام تجرى خلفها تزفهما صيحات الحرب اللذيذة، ومن دراجات مشغولة بزينة ورقية، معظمها مؤجَّر لساعة أو جزء من الساعة من عجلاتى الشارع، الذى كان حقيقة يومية ذات يوم، وصار الآن تراثاً وذكرى أدبية، بل أثرية, والبعض الآخر، وهو قليل، دراجات يملكها أصحابها من أطفال الجيران المحظوظين بأب ثرى أو سخيّ، أو نجحوا فى الابتدائية، أو كبار حصلوا على الإعدادية... وفوق كل هذا ينهمر البُمب من كل اتجاه: أرضياً من أيدى العيال الحالمين بأمجاد الحرب ويقصفون الرصيف والشارع بحماس وإخلاص، أو فضائياً من الشرفات، بعد أن ينفخوا بقوة فى أيديهم القابضة على القذائف الورقية الصغيرة المزمجرة..
وتخرق أناملنا الصغيرة لفائف البخت المشتراة بالتعريفة والمليم، ليجد المُبخَت منا فى اللفافة تعريفة أخرى أو مليماً، أو قطعة كراميللا، وأحياناً سطراً من ثلاث كلمات يعد بمكافأة غامضة ستأتى يوماً. بعضنا انتظر هذه المكافأة لسنين أو عقود ولم تأت. لكنّ أهَمَّ ما يمنحه العيد: بهجته؛ التى لا تقدّر بثمن ولا يقدر عليها إلا قلب طفل عريق، مازال يقبض بعناد على بعض البراءة، حتى وإن صار جداً مانحاً لعيدية الفرحة الطفلية لصغار استلموا مهمة البهجة.
لمزيد من مقالات بهاء جاهين رابط دائم: