ذكّرتنى جملة قالها وزير الخارجية الإيرانى محمد جواد ظريف فى حواره السّرى المسّرب مع أحد الاقتصاديين الإيرانيين - ذكرتنى بجملة مشابهة قالها مهدى بازركان الذى كان رئيسًا للحكومة الانتقالية بعد الثورة الإيرانية من فبراير لنوفمبر ١٩٧٩. قال ظريف بشيء من المبالغة سألونى كم بيدك فى مجال السياسة الخارجية من الصفر إلى المائة؟ فقلت صفر، ووصف بازركان دوره بعد تسعة أشهر من توليه السلطة بأنه قد تحوّل إلى سكّين بلا نصل. استقال بازركان من منصبه، وهناك من يراهنون على أن ظريف قد يستقيل هو الآخر خاصة بعد أن انتقده المرشد الأعلى نقدًا شديدًا، لكن فى إيران لا يوجد شيء مؤكد. المهم فى الموضوع أنه على مدار اثنين وأربعين عامًا ما بين جملة بازركان وجملة ظريف استمر الصراع ما بين التيارات الإصلاحية والتيارات المحافظة فى إيران، وهو صراع يُستخدَم فيه بالتبادل مصطلحا الجمهورية الإسلامية والثورة الإسلامية، ومع أنه من المفهوم أن الجمهورية الإسلامية تأسست على مبادئ الثورة الإسلامية، لكن المقصود أن الحضور القوى والمستمر لمصطلح الثورة الإسلامية فى الخطاب السياسى الإيرانى يكشف عن ازدواجية تُلازِم مسيرة هذه الدولة منذ عام ١٩٧٩ وحتى الآن.
اعتبر بازركان نفسه سكّينا بلا نصل بعدما اكتشف أن آية الله الخمينى اختاره ليكون مجرد واجهة ليبرالية للنظام الجديد لكن بدون صلاحيات حقيقية، ولذلك سرعان ما توالت معارك بازركان مع المجلس الثورى ومع مجلس الخبراء بل ومع الخمينى نفسه حول العديد من القضايا الداخلية فضلًا عن اقتحام السفارة الأمريكية بطهران ، وفى الأخير قدّم بازركان استقالته واختفى من المشهد السياسى. تكرر الأمر مع ظريف بكلامه عن تصفير دوره فى القضايا الخارجية، واستشهد على ذلك بتعدّى الحرس الثورى على دوره فى العديد من القضايا الإقليمية كالقضيتين السورية والعراقية، بل وصل الأمر لدرجة أنه قبل مباحثاته مع وزراء خارجية الدول الأخرى كان قاسم سليمانى قائد فيلق القدس فى الحرس الثورى يملى عليه ما يقوله وأنت ذاهب للقاء لافروف اطلب منه ١-٢-٣. لكن قبل أن يفتح ظريف قلبه ويشكو من تزايد سطوة الحرس الثورى على وزارة الخارجية الإيرانية، كان قد سبق أن عبّر عن احتجاجه بشكل آخر عندما استقال من منصبه فى فبراير ٢٠١٩ لأن الرئيس السورى بشار الأسد أتى إلى طهران واجتمع مع المرشد الأعلى ومع رئيس الجمهورية فى حضور قاسم سليمانى وفى غياب ظريف بل وحتى دون علمه. لم يتحدث ظريف وقتها للإعلام عن أسباب استقالته لكن اللبيب بالإشارة يفهم، وقد رفض الرئيس روحانى الاستقالة وكال المديح لظريف حتى يسترضيه ثم قال على كل السلطات والمؤسسات الحكومية أن تنسّق مع وزارة الخارجية بما يتعلق بالعلاقات الدولية ، كما تم الإيعاز به عدة مرات.
إذن، صراع التيارات الإصلاحية والمحافظة هو صراع قديم، مع العلم بوجود حد أدنى من التداخل فى مواقف هذه التيارات كافة. وهو صراع حقيقى، مع أنه فى بعض الأحيان يكون مُتعمَدًا ويُستَخدَم كورقة للضغط فى المفاوضات الدولية. وفى العقدين الأخيرين أدت مجموعة من التطورات إلى تضخم دور الحرس الثورى بشكل أوضح ، ليس فقط بما يزيد على تأثير جهاز الدبلوماسية الإيرانية فى صنع السياسة الخارجية، بل حتى بما يزيد على تأثير وزارة المخابرات إطلاعات ذات السمعة المعروفة منذ أيام حكم الشاه. ومن أهم التطورات التى خدمت دور الحرس الثورى وصول قاسم سليمانى إلى منصب قائد فيلق القدس، فالرجل من حيث قدراته التنظيمية وشبكة علاقاته الواسعة جدًا وشخصيته الكاريزمية كان يمثل ظاهرة استثنائية بكل المقاييس. ومن بعد قيادته لفيلق القدس توالت التطورات الإقليمية التى ضخّمت من دور الحرس، فلقد وقع الاحتلال الأمريكى للعراق، واندلعت الصراعات المسلحة فى سوريا واليمن، وسيطر داعش على الموصل وهدد وأمثاله جرود لبنان، وتصاعدت معركة تكسير العظام بين إيران وإسرائيل. وفى كل هذه التطورات كان الحرس الثورى حاضرًا ومتدخلًا ومدافعًا عن مشروع التمدد الإقليمى الإيرانى. ومع أن توقيع الاتفاق النووى جاء ليمثل انتصارًا مؤزرًا للدبلوماسية الإيرانية، وكانت الصورة التى التُقُطت لظريف مع أطراف الاتفاق بعد إتمام التوقيع وهو يقهقه من قلبه صورة أكثر من دالة، إلا أن التعقيدات التى أتى بها ترامب أعادت الحرس والقوى المحافظة من ورائه إلى الواجهة فى هذا الملف.
الآن، لاحت الفرصة لإعادة الروح للاتفاق النووى ومعها بوادر التهدئة الإقليمية، وهذا سينعكس بدوره على تنشيط دور جهاز الدبلوماسية الإيرانية مجددًا، ولهذا فإن توقيت تسريب حوار ظريف الذى يظهر فيه ناقمًا بشدة على دور الحرس الثورى -توقيت شديد الذكاء هدفه قطع الطريق على ترشح ظريف للانتخابات الرئاسية. وذلك أن خطورة ظريف على توازنات القوة الداخلية تنبع من مهارته الدبلوماسية الشديدة ومقبوليته الخارجية الواسعة، وهذه الخطورة كان يتم تحجيمها مع وجود شخص قوى مثل قاسم سليمانى على رأس فيلق القدس، أما بعد اغتيال سليمانى فإن خليفته، فيما يبدو غير قادر على أن يملأ الفراغ الذى تركه حتى اللحظة على الأقل، وتلك هى إذن ديناميات الصراع الداخلى فى إيران. إنها ديناميات مؤثرة بالتأكيد فى تحديد أوزان التيارات السياسية المختلفة، لكن تأتى كلمة المرشد لتمثل فصل القول فى الأمر كله، وهذه الكلمة هى التى ستحدد هل يكون ظريف أم لا يكون.
لمزيد من مقالات د. نيفين مسعد رابط دائم: