مشاهد مروعة تشهدها بلاد العجائب، عائلات بأكملها فى الشوارع والسيارات مصابة بكورونا ولا تجد مكانا لها داخل المستشفيات، ونيران مشتعلة لإحراق جثث الضحايا، وكأنها أرض الزومبى فى أفلام هوليوود وليست أرض تاج محل.
ما يحدث فى الهند حاليا من تفش لوباء كورونا لدرجة أن عدد الإصابات اليومية اقترب من 400 ألف، بينما بلغت الوفيات 120 شخصا كل ساعة، ليس مفاجئا أو مثيرا للدهشة بالنسبة للخبراء الصحيين والعلميين، بل كان نتيجة طبيعية لأخطاء كارثية ارتكبتها حكومة ناريندرا مودى رئيس الوزراء الهندي، حيث انتهج مودى – 70 عاما- سياسة الإنكار أو بمعنى أصح الإهمال والتقصير والاستهتار، حيث تقمص نبرة صوت الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون عندما قال فلسفته الشهيرة التى كانت سببا لنجاحه فى الانتخابات فى عام 1992 «الاقتصاد يا غبي». ورغم أن الجملة، التى صكها جيمس كارفيل الخبير الاستراتيجى فى حملة كلينتون، فقدت معناها وابتذلت فى السياسة الأمريكية بعدما تحولت إلى علكة يلوكها كل سياسى بتنويعات مختلفة «إنه الكساد ياغبي» أو «إنه الفساد يا غبي» وغيرها من الجمل المطاطة، إلا أن مودى اعتبرها الأساس الذى يستند عليه خصوصا قبيل الانتخابات، فإنه موسم التركيز على استطلاعات الرأى حيث مل الهنود من الإغلاق. ففى يناير وفبراير 2021، ومع انخفاض عدد الإصابات من 90 ألفا إلى 20 ألفا، أعلن مودي، المنتمى إلى حزب «بهاراتيا جاناتا» الحاكم منذ 2014، هزيمة كورونا وإعادة فتح الأماكن العامة واستئناف الحياة بشكل طبيعي. ومع انطلاق هذه الخطوات، نسى الهنود بروتوكولات الأمن والسلامة تحت أعين مودى وكبار الساسة. فالتجمعات الانتخابية بلا كمامات، كما شارك ملايين الهنود فى مهرجان «كومبه ميلا» الهندوسى رغم إصابة الآلاف من المشاركين بالفيروس. فلم تر السلطات الهندية بوادر الموجة الثانية، وبدأت الاحتفال بهزيمة عدو شرس مبكرا.
وفى فبراير الماضي، حذر خبراء الصحة الهنود مما سموه «تسونامى» كورونا. وفى مارس، حذرت لجنة خبراء شكلتها حكومة رئيس الوزراء من نوع متحور أكثر عدوى وفتكا من كوفيد ــ 19 بسبب عدم اتخاذ إجراءات صارمة للاحتواء. ورغم هذه التحذيرات، إلا أن الحكومة الهندية ظلت صامتة حتى خرج وزير الصحة الهندى ليعلن أن البلاد فى «نهاية لعبة» الوباء. لم تصم الحكومة الهندية آذانها فقط عن نداءات العلماء وتحذيراتهم، ولم تنكر كارثة عدم امتلاكها الأدوات الكافية لمواجهة إعصار كورونا وتعترف بانهيار النظام الصحي، بل صمت آذانها أيضا عن سماع صوت الشعب. وهو ما دفع المحكمة العليا الهندية للدفاع عن حق المواطنين فى التعبير عن المظالم وطلب المساعدة على مواقع التواصل الاجتماعى خلال أزمة كورونا، وحذرت من أن أى تحركات من قبل الحكومة لمنع المواطنين من القيام بذلك سيتم التعامل معه باعتباره ازدراء للمحكمة، وذلك ردا على مطالبة السلطات لتويتر بحذف عدد من التغريدات التى تنتقد الحكومة. ودافع وزير الصحة هارش فاردان عن الحكومة قائلا إن معدل الوفيات يعد الأقل فى العالم، وأن إمدادات الأوكسجين متوافرة. ومع تعرى البنية التحتية للنظام الصحى الهندي، ووفاة المئات فى الشوارع أمام المستشفيات، مازال مودى يطالب بأن يكون الإغلاق «الخيار الأخير»، فى حين أن كافة السياسيين سواء من حزبه أو حزب المعارضة برئاسة راؤول غاندى رئيس حزب «المؤتمر» وصولا إلى أنتونى فاوتشى مستشار الرئيس الأمريكى جو بايدن اعتبروا أن الإغلاق هو الطريق الوحيد لإنهاء المأساة الهندية. وليس هذا فحسب، فقد خسر مودى وحزبه معركته السياسية الحقيقية بخسارة ولاية البنغال الغربية فى الانتخابات، ونجحت ديدى أو «الأخت الكبرى»ماماتا بانيرجى أشد المنتقدين لمودى فى الولاية. ويرى بعض المدافعين عن سياسات مودى أنه رفض الإغلاق مجددا على المستوى الوطنى حتى لا تتكرر مأساة حدوث كارثة إنسانية مثلما حدث فى الإغلاق الأول، عندما فر العمال المهاجرون من المدن الكبرى إلى المناطق الزراعية سيرا على الأقدام. وكأن المعادلة تحولت إلى أن الإغلاق يساوى كارثة اقتصادية، بينما عدم الإغلاق يساوى كارثة صحية، وأن مودى اهتم بالجزء الأول فقط من المعادلة، المهم حماية الاقتصاد. ورغم أن صندوق النقد الدولى رفع توقعاته للنمو فى الهند إلى 12.5%، إلا أن جيتا جوبيناث كبيرة الاقتصاديين فى الصندوق قالت إن هذه الحسابات تم توقعها قبل الموجة الحالية. بينما حذرت مجموعة «أكسفورد إيكونوميكس» البحثية من أن الأشهر المقبلة ستكون حاسمة حيث إن المتحور الجديد يتحدى التعافى غير المكتمل فى الهند. وهكذا خسر مودى حتى رهانه على الاقتصادى تاركا بلاد العجائب فريسة لوحشية كورونا.
رابط دائم: