تأجيل حفل فيفيان لى من أجل عيون «الست»
«أم كلثوم وأنا ..5 شارع أبو الفدا» ، عنوان كتاب صدر حديثا عن دار الهالة للنشر ، يحوى ذكريات طالب بكلية الهندسة شغف بصوت السيدة أم كلثوم فقام بتحليله علميا، وألف جمعية لأصدقاء «الست» كان الشاعر أحمد رامى والكاتبة نعمات أحمد فؤاد وعازف القانون عبده صالح من أبرز أعضائها .
خبر يستدعى أسئلة كثيرة قد تتداعى إلى ذهن القارئ كما قفزت إلى رأسى : من هو هذا الطالب ، ولماذا قرر الآن فتح باب الذكريات وتسجيلها فى كتاب ،ثم كيف استطاع النفاذ بهذه السلاسة إلى قلعة كوكب الشرق ؟!
فكرى صالح من مواليد القاهرة 1945 .تخرج فى كلية الهندسة بجامعة عين شمس 1968 . فى عام 1969 هاجر إلى كندا لدراسة الهندسة الطبية ،ثم عمل فى مستشفى أوتاوا العام ..وحصل على الجنسية الكندية وانتقل للعمل فى القسم الخاص بالأجهزة الطبية فى وزارة الصحة الكندية.
...........................
كان أول سؤال ألح على ذهنى :
لماذا استغرقت كل هذا الوقت حتى تصدر هذا الكتاب الوثيقة ..ولماذا الآن؟
كنت منشغلا بدراساتى وأبحاثى وأسفارى المختلفة وحضور المؤتمرات.لكن منذ 5 سنوات بدأت أجمع الصور القديمة لدى ومن حسن الحظ أننى كنت أكتب على ظهر الصور التواريخ والمناسبات، ولأن الذاكرة البعيدة تكون آخر ما ينساه المرء، وجدت الذكريات لا تزال طازجة فى وجدانى فقررت تدوينها وإذا بالعديد من الأصدقاء على فيسبوك من محبى أم كلثوم من مصر والدول العربية ومن أنحاء مختلفة حول العالم ،يطالبوننى بنشر تلك المذكرات فى كتاب، واتصلت بى السيدة هالة البشبيشى صاحبة دار الهالة تريد نشر الكتاب ، وقد رحبت بل تنازلت عن أى حقوق لى فى الكتاب بشرط أن يكون سعر الكتاب ملائما بحيث يقرؤه أكبر عدد من الناس .
احك لنا عن جمعية أم كلثوم ولماذا قمت بتأسيسها ؟
قررت مع زملائى بكلية الهندسة تأسيس جمعية باسم أم كلثوم، وتنظيم ندوات تتناول فنها وحياتها ، وكان من أبرز أعضاء الجمعية الشاعر أحمد رامى وكان شخصية متواضعة جدا، وعميد كلية الهندسة د. حسن مصطفى الذى أصبح وزيرا للصناعة فيما بعد ، وعدد كبير من الأساتذة بالكلية ، كذلك الشاعر صالح جودت والكاتبة نعمات أحمد فؤاد التى ربطتنى بها وأسرتها علاقة صداقة ،بالإضافة إلى عازف القانون عبده صالح.
كنا نعقد ندوة شهريا فى الكلية .وكان الأستاذ عبده صالح وعدد من العازفين فى فرقة أم كلثوم يحضرون بعض تلك الندوات ويقومون بالعزف خلالها.
اللقاء الأول مع كوكب الشرق ..قطعا لا ينسى ..فما تفاصيله؟
فى 4 من مارس 1965 فى مسرح الأزبكية يوم الخميس الأول من شهر مارس وكانت تغنى لأول مرة فى الوصلة الثانية »انت الحب« كلمات أحمد رامى وألحان عبد الوهاب ..كانت الست بين كل وصلة تستريح فى غرفتها نحو الساعة، والجمهور يقف طابورا كى يسلم عليها . وقرب انتهاء الاستراحة واتتنى الشجاعة كى أستعين بأحد المصورين الموجودين فى قاعة الحفل واتجهت إلى غرفة الست فإذا بى أقابلها وأقول «هل ممكن أتصور مع حضرتك فابتسمت وقالت لى : طبعا ..ويبدو أنها أعجبت بشجاعة ذلك الشاب الذى لا يتخطى عمره 19 سنة وجرأته على الاقتراب منها بهذا القدر فى حين كان المصور يرتعش . ومن رهبة الموقف كنت أقف مبتعدا عن أم كلثوم بنحو 30 سم، فقالت لى «انت خايف ولا ايه» ومدت يدها وقربتنى منها . والتقطت الصورة، ومن فرط فرحتى نسيت أن أشكرها وانطلقت كالسهم من الفرحة .وبعد أسبوع ذهبت إلى استديو المصور وحصلت على الصورة و«العفريتة» أى النيجاتيف مقابل جنيهين وهو أول وأهم استثمار فى حياتى.. وقد استخرجت أكثر من كارت منها صورة صغيرة احتفظت بها فى محفظتى طيلة السنوات السابقة.
فى الحفلة التالية دخلت فى الاستراحة وعرضت على السيدة أم كلثوم الصور فأمسكت بالقلم وكتبت لى إهداء بخط يدها
وكيف تكررت لقاءاتك بالست كثيرا ؟
بعد كل ندوة أو رحلة كنت أتصل بها تليفونيا لأطلعها على أنشطة الجمعية وأتحاور معها وأوجه إليها بعض الأسئلة التى كنت أنشرها فى مجلة الحائط بالكلية..تكررت اللقاءات فى حديقة الفيلا والاستديو وأحيانا خلال استراحة الحفلات.
ما أبرز المواقف التى جمعتكما ؟
مواقف كثيرة أبرزها ..عندما اشتريت مصيدة لصيد اليمام .وحكيت لأم كلثوم فغضبت منى بشدة قائلة : لما تروح افتح القفص وخلى اليمامة تطير .ثم وقفت وهو ما كان يعنى «المقابلة انتهت» ومن وقتها تعلمت احترام الحيوان واتجهت إلى تربية الكلاب والقطط كما شاركت فى جمعيات الرفق بالحيوان.
ما الأسرار التى قد تكون اختصتك بها ؟
لا أستطيع القول إنها أسرار ..لكن هناك أمرا أرادت منى ألا أذكره ..كانت كل يوم تمارس المشى فى منطقة بعيدة على الكورنيش فى المعادى وذات مرة كنت أنتظرها أمام الفيللا فأشارت إلى بالركوب فى السيارة ووجدتها تضحك فإذا بها تقص على قصة السيدة التى تبيع الشاى على الكورنيش وكانت أم كلثوم تجلس معها أحيانا فإذا بهما ذات مرة يستمعان إلى الراديو وكان يبث أغنية لأم كلثوم فأخذت الست تغنى معها ، فنهرتها بائعة الشاى «إنت فاكرة نفسك أم كلثوم» . وبعد وفاة الست ذهبت للبحث عن تلك السيدة فوجدتها قد وضعت منضدة وعددا من الكراسى ولما سألتها عن السيدة التى كانت تأتى للجلوس إليها، أخبرتنى أنها كانت تعطيها بقشيش كبير ساعدها على تربية وتعليم أولادها وأنها كانت تحثها على عدم إهمال تعليم الأبناء.
ما أكثر ما سبب لها حزنا؟
نكسة 1967 كانت صدمة بالنسبة لها لكن بقوة شخصيتها وذكائها حولت الحزن إلى طاقة إيجابية من خلال الحفلات التى نظمتها لمصلحة المجهود الحربى فى مصر وباريس .
كما كان يوم وفاة الأستاذ محمد القصبجى حزينا للغاية بالنسبة لها وهو ما رأيته بنفسى فى أثناء الجنازة .
هل عرفت أشهر من غنت للحب، معنى الحب وعاشته ؟
الرد صعب لأنها لم تتحدث علنا . هناك شائعات كثيرة لكن لا يوجد ما يمكن توثيقه .وذات مرة سألتها بجرأة الشباب عن الشخص الذى أحبته فنظرت لى نظرة صارمة وقالت: أمى ثم أضافت : ولا تسألنى من بعد أمى واتركنى حتى أصلى لروحها.
ما تفاصيل الدراسات التى أجريت على حنجرة كوكب الشرق ؟
لقد استخدمنا أجهزة إلكترونية لقياس خصائص صوتها
ومقارنته بأصوات مغنيات أخريات من جميع دول العالم.
صوت أم كلثوم يعد »كونترالتو دراماتيك فى معظم أغانيها
ولكنها كانت تغنى فى أجزاء منها متزوسوبرانو
ثم تنتقل إلى سوبرانو . وهو ما لم تستطعه أى مغنية عالمية . كانت حنجرة أم كلثوم تنتج اثنين من أوكتاف .
كل أوكتاف معناه مساحة صوتية من 8 درجات نغمية. كان صوتها يصل إلى 16000 ذبذبة فى الثانية. هناك دراسات أجريناها فى هندسة عين شمس وأخرى فى جامعات كندية وأوروبية، وجدنا خلالها أنه لا توجد أى مغنية وصل صوتها لذلك الرقم، فأشهر مغنية أوبرا عالمية اسمها «ماريا كالاس» كان صوتها يصل إلى 9000 ولفترة قليلة.
والأهم من ذلك هو قدرة أم كلثوم على التحكم فى مساحتها الصوتية غير العادية وقدرتها على أداء الحركة الموسيقية ــ أى الانتقال من نغمة إلى أخرى بعيدة أو قريبة من النغمة التى تغنيها ــ دون تردد أو اهتزاز فى صوتها.
صوتها يمتد لأصوات النساء »كونترالتو« و«ميتسو سوبرانو«، ولكنها فى كثير من تجلياتها تصل إلى مقام يقع وسط مساحة »رى بيمول«، وهى طبقة الباريتون التى تتوسط »الباص« و«التينور« فى أصوات الرجال.
عند سفرها للعلاج فى مستشفى البحرية الأمريكية التى كان يدخلها فقط الملوك والرؤساء طلب منها الباحثون أن توافق على عمل عقد معهم على إعطائهم حق أخذ حنجرتها للبحث والتحليل بعد وفاتها مقابل 100 مليون دولار. ذلك كان سنة 1948 تقريبا. بالطبع هى رفضت.
من المعروف أنها كانت تغنى دون ميكرفون فى شبابها وعندما استخدموا ميكرفون ، تمزق بسبب قوة صوتها حتى فى آخر حياتها كانت فى السبعينات من عمرها كان الميكرفون معلقا على بعد أكثر من متر منها.
من أكثر مؤلف وموسيقى كانت تفضل الست التعامل معهما ؟
سألتها ذلك السؤال أكثر من مرة ،لكنها كانت حذرة ودبلوماسية فى الحديث عن الأشخاص عموما وكانت تتكلم بتقدير عن كل الملحنين والمؤلفين الذين تعاملت معهم ولكن السنباطى تحديدا كانت تقول عنه »فاهم صوتها كويس« وأنه يلحن معانى الكلمات ويعطيها مساحات بين الجمل الموسيقية كى تتصرف فيها بما يتلاءم ومواطن قوة صوتها وكانت تحب موسيقاه الشرقية .
لم تتحدث عن مؤلف بعينه لكن عندما سألتها عن أقرب صديق ،كان ردها دون تردد : أحمد رامى لأنه كان يعطيها من وقته الكثير والوقت كما قالت لى هو أحسن هدية لانه »بيروح مبيرجعش تاني« ..
ليس من رأى كمن سمع ..لذا حدثنا عن طقوس حفلات الست التى كنت تحضرها فى ذلك الوقت ؟
كما قال شاعر الشباب الأستاذ أحمد رامي: «الجمهور كان يحتشد لسماعها كأنما يستقبل عيدا من أعياد الدهر». أطلق على حفلاتها أسماء كثيرة ولكن أنا أفضل «معبد الحب». كان الجمهور يصل نحو الساعة التاسعة بكامل أناقته وعلى أحدث الموضات العالمية ،كان الاستثناء فى الزى لعمدة اسمه سعيد حافظ الطحان الذى كان يلقب السميع الأول.كان يرتدى الجبة والقفطان بوجاهة ووقار. لا أذكر اسم القرية التى كان هو عمدتها. كان يحضر كل حفلاتها وكان مكانه فى منتصف الصف الأول بجوار الأستاذ أحمد رامى فى معظم الحفلات.
حتى الساعة العاشرة والنصف تقريبا نسمع أصوات آلات موسيقية من وراء الستار.علمت بعد ذلك أن الفرقة كانت تستعد وأن أم كلثوم بنفسها كانت تتأكد أن كل الآلات الموسيقية مضبوطة . وبعد ثلاث دقات ودون مقدمات ينفرج الستار وتظهر كوكب الشرق، فيقف الجميع كبيرا وصغيرا ثم تضج القاعة بعاصفة من التصفيق تتخللها الهتافات . وقد جعلنى الجلوس فى الصفوف الأمامية أسعد بسماع صوتها مباشرةً بدون مكبرات الصوت، ففى ذلك الوقت لم تكن أجهزة التسجيل متطورة كما هى الآن. ومهما يكن صوتها جميلاً فى التسجيلات التى نسمعها الآن فكان صوتها الطبيعى أجمل جدا.
كانت الشوارع يوم الحفل تخلو من المارة ،فالكل إما فى الحفل أو بجوار الراديو . وأذكر واقعة شهيرة حدثت مع الممثلة فيفيان لى ..فبعدما نجح فيلم «ذهب مع الريح» أوائل الأربعينيات، أقامت لها السفارة البريطانية حفلا فى مصر دعوا إليه الكثيرين ، وصادف موعد حفل فيفيان لى يوم حفل أم كلثوم، فاعتذر كل الضيوف عن حضور حفل فيفيان لى، مما اضطر السفارة البريطانية إلى تأجيل الحفل ،فلما علمت فيفيان لى بالسبب، دفعها الشغف إلى حضور حفل أم كلثوم، ولما رجعت الى بريطانيا وسألها الصحفيون عما شاهدته فى مصر، قالت إنها رأت ما هو أكبر من أهرام الجيزة ،وأضافت أن أم كلثوم معجزة وأنها ستعود إلى مصر لحضور حفلات أخرى لها.
دخلت فيللا الست هل يمكنك أن تصفها لنا وتصف لنا ذوق كوكب الشرق فى تأثيثها ؟
كان فى المنزل بدرون وعدة حجرات فى السطوح للخدم والعاملين وثلاثة (طوابق) :الطابق الأول لأقاربها، والثانى للضيوف وكان هناك حجرة سفرة وصالون وصالة للبروفات. الطابق الثالث كان لها شخصياً وكان فيه حجرتان واحدة شتوية والثانية صيفية ،وكذلك حجرة مثل مكتب خاص لها. كان أيضا فى منزلها حجرتان لعلاج الفقراء من أهل قريتها الذين كانت تتكفل بمصاريف علاجهم وتعليم أولادهم.
ما إحساسك عندما تم هدم تلك الفيلا ؟
كان أسوأ قرار اتخذه ورثة الست ، خصوصا إذا قرأنا ما فعلته كوبا فى منزل الكاتب الأمريكى الشهير أرنست همنجواى، الذى كان يقيم فيه عند زيارته كوبا، وموجود فيه مكتبه وحجرة نومه وكل الأثاث الذى كان يملكه وكانت زوجته تريد بيعه ، فأخذته حكومة كوبا احتراما لذكرى الكاتب الكبير،وجعلت منه متحفا جميلا يزوره السياح من كل أنحاء العالم. وكان من المفترض أن يتم بالمثل الحفاظ على فيللا السيدة أم كلثوم، وقد علمت أن الدكتورة نعمات أحمد فؤاد ومصطفى أمين وأنيس منصور وغيرهم حاولوا الحفاظ عليه دون جدوى.
رابط دائم: