رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

التنوير والإلحاد والإسلام السياسى

عرفت الثقافة الأوروبية ظاهرة الإلحاد في صيرورة تحولها من التقليد إلى الحداثة، وانشغالها بالإجابة على الأسئلة الجوهرية حول: أصل الخلق، وجذور الشر، وجدوى الخير، ومصير الإنسان، ومغزى الحياة، ومعنى الموت.. الخ. انطوى هذا الإلحاد على موقف معرفي مسئول تدفعه الرغبة في تخليص البشرية مما يعتبرونه أوهاما تعطل العقل وتقيد الحرية، أفنى أصحابه العمر في بلورته، وأنتجوا في ظله نظريات اتسمت بالعمق في تفسير الظواهر الإنسانية، سواء النفسية كالأحلام لدى فرويد، أو الاقتصادية ـ الاجتماعية لدى ماركس، أو الاجتماعية ـ الدينية لدى إميل دوركهايم. بل إن تفسير فرويد لنشأة الدين بنظرية قتل الأب رغم قصورها في تفسير ظاهرة الإلوهية، فإنها تضيء لنا عشرات الظواهر الإنسانية، كالصراع بين الأجيال، عندما يسعى اللاحق للاستحواذ على ثمار زرعها السابق، أو الحلول محله، رغم ما قدمه الأخير له من دعم في لحظة البداية.

هكذا كان الطريق إلى الإلحاد الفلسفي مفروشا بكل أنواع المعارف بل إن كثيرا من الناس العاديين، غير المعنيين بإنتاج الأفكار، اضطروا إلى خوض مغامرة المعرفة لتبرير إلحادهم ومن ثم اكتسبوا القدرة على تفهم شعور المتدينين، الأمر الذي نتجت عنه ظواهر لافتة من قبيل الملحد المهذب والخلوق والإيجابي، الذي لا يتوانى عن التضامن مع الآخرين أيا كانت انتماءاتهم، احتراما للروح الإنسانية، وذلك فى مقابل المتدين الجهول والمتعصب والهمجي أحيانا، الذي قد لا يتورع عن إيذاء المختلفين عنه عقديا أو مذهبيا. تفسيرنا لذلك التناقض أن الملحد الخلوق ينظر إلى العالم من منظور الخير الكوني العام، ومن داخل شعوره بالواجب وإحساسه بالمسئولية عن العالم. ورغم أن هذا المنظور قد نبت في ضمير البشرية بفعل الديانات الكبرى/ التوحيدية، وتمددها على حساب الديانات الوثنية المحدود بقبائل وجماعات صغرى، فإنه سرعان ما ارتبط بفلسفة التنوير، ليجرى استبدال الأساس الديني للواجب المشترك بين جماعة المؤمنين إزاء الإله الذي يعبدون، بأساس علماني حديث يتسع لجميع البشر ويشعرهم بالمسئولية عن النوع الإنساني نفسه.

في الثقافة العربية المعاصرة لا يكاد يوجد تيار إلحاد فلسفي ينطلق من رؤية للوجود، بل نمط إلحاد سوقي ينتشر أكثر بين شباب متمرد لا غايات لإلحادهم سوى الاستعلاء على المتدينين باعتبارهم قطيعا يحسن التفرد في مواجهته، ربما تحقيقا للشهرة والذيوع. ومن ثم اتخذ إلحادهم شكل ظواهر عشوائية راجت خصوصا بعد عاصفة الربيع العربي وتغذت على نمط التدين الاحتجاجي. هنا تكمن المفارقة، فبينما نتج الإلحاد الغربي عن فائق عقلانية تغذت منه الرؤى المادية للوجود، نجد أن الجزء الأكبر من الإلحاد العربي نتج عن نقص العقلانية وتغذى على التدين المحافظ، خصوصا على الفجوة بين المثل العليا التي يدعو إليها الإسلام كدين، وبين الممارسات الذميمة سواء التي وقع فيها الإسلام السياسي إبان فترة حكمه وصراعه على السلطة، كالكذب والنفاق والمراوغة. أو العنف الذى مارسه التيار الجهادي في مواجهة خصومه من حكام ودول ومجتمعات يعتبرها كافرة. نالت تلك الفجوة من درجة انسجام الناس مع إيمانهم، فنمت شكوك البعض، وتحول بعض الشكاك إلى ملحدين، وازدادت شجاعة الجميع في التعبير عن أنفسهم بل مالوا إلى الاستعراض عكس نزوعهم السابق إلى الاختباء، فأنشأوا دوائر اتصال علنية عبر الشبكة العنكبوتية يمارسون من خلالها الدعوة إلى أفكارهم، وهنا باتوا ظاهرة مثيرة للإعلام وحافزة للجدل، دفعت أحد نواب البرلمان المصري السابق لاقتراح مشروع قانون لملاحقة الملحدين دفاعا عن الإسلام. من جانبنا نرفض هذا القانون، ونطالب بالتسامح مع الإلحاد كموقف فكرى، لصاحبه الحق في الحياة والتفكير دونما افتئات على حريته أو بغى على دمه، طالما عبر عن موقفه بإنسانية ومسئولية، ولم يتورط فى ازدراء الأديان أو في سلوكيات تجلب الفتن، انسجاما مع روح الشريعة السامية، ومنطق النص القرآني القائل: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغىَّ». لا يعنى ذلك محاباتنا لتلك الظاهرة بل يعنى تقليلا من شأنها، وإدراكا لضرورة استيعابها. تقليلا منها لأن الاعتراف بها لن يفضى إلى ذيوعها، فالملحد جوهريا لن يؤمن بالله تحت ضغط العقاب القانوني بل سيتحول إلى باطني منافق، ملحد كامن أخطر على الإسلام من الملحد الصريح، مثلما أن المسلم المتطرف أخطر على الإسلام من ملحد إنساني عاقل. أما ضرورة استيعابها فلأن ذلك يمثل نقطة متقدمة في مسار تحرير الضمير المسلم، تحقق الأمان النفسي لجل مكونات الاجتماع العربي، وتزيد من قدراتها على التسامح فيما بينها وتعفيها من خوض الصراعات العبثية. أما محاولات فرض تصورات طهرانية من قبل حكومات أو مؤسسات دينية، عبر قوانين عقابية، فيفضى إلى استبداد ديني يتفجر في ظله التطرف الذي لا يسىء فقط إلى صورة الإسلام العقدي والحضاري بل يعود ليغذى الإلحاد.

يفرض ذلك التطور على مؤسساتنا الدينية الاكتفاء بالدور التعليمي والإفتائي المنوط بها والابتعاد عن أي طابع وصائي، وعلى متطوعي الحسبة التوقف عن ملاحقة المجتهدين في قضايا تجديد التراث والفكر الديني، مع احتفاظ الجميع بالحق في السجال مع المنتج الفكري للمجتهد بهدف إنارة الرأي العام. كما يفرض على مؤسساتنا التعليمية الاضطلاع بمهمة تربية أطفالنا على التفكير النقدي بالقدر الذي يجعل مجتمعاتنا قادرة على التعاطي مع شتى أطياف الفكر، وعلى حصار المتطرفين سواء على الجانب الدينى أو الإلحادي، بأدواتها الذاتية، من خلال رفع الكارت الأصفر فى وجوههم، على نحو ينزع الشرعية الأخلاقية عنهم، ويدمر قنوات تواصلهم مع جماهيرهم، وربما يعيدهم إلى جادة الاعتدال، بدلا من الإفراط في رفع الكارت الأحمر من قبل السلطات القضائية، دفعا بهم إلى السجون أو الهجرة، ما يقلل من فرص الجدل الفكري لصالح استقطاب مجتمعي، تنطلق في سياقه طلقات المدافع من خلف خطوط النار الملتهبة بين جانبين يرى كل منهما أن لا حياة له إلا على جثة الآخر.

[email protected]
لمزيد من مقالات صلاح سالم

رابط دائم: