رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

العقد الطبيعى

أدى التقدم العلمى إلى تعظيم النشاط الإنتاجى للإنسان، وأدى هذا النشاط بدوره إلى تزايد الأخطار المحدقة بالبيئة. هذا الوضع استثار تأملات العديد من الفلاسفة ودفعهم إلى بلورة تصورات قد تمثل سبيلاً للخروج من المأزق. 

الفيلسوف الفرنسى ومؤرخ العلوم ميشيل سير الذى توفى عام 2019 من الذين كرسوا جهدا كبيرا من حياتهم للتنبيه إلى هذا الخطر. يوصينا سير منذ البداية بأن ننحى جانبا تعبير المحيط البيئى لأنه يفترض أن الإنسان هو المركز والعالم ليس إلا مجموعة من الأشياء التى تدور حوله. ولكى يصل الإنسان إلى علاقة متوازنة مع العالم الذى يعيش فيه عليه أن يتخلى عن إعتقاده بأنه مركز الكون وأرقى الكائنات.  من أين جاء الاختلال فى علاقة الانسان بالبيئة والدور التدميرى للعلم؟ حينما نتساءل عن أصل العلوم نميل عادة إلى الإجابة بأن السبب فى ذلك هو الفضول وحب المعرفة، ولكن ميشيل سير يرى أن الأصل كان هو الرغبة فى تحقيق العدل، ولهذا ظهرت الرياضيات قبل الفيزياء، وكان ذلك فى وادى النيل. كان الفلاحون يزرعون الأرض على ضفتى النهر ويأتى الفيضان فيغمرها بالماء، ثم ينحسر فيترك أرضاً للزراعة ربما أقل أو أكثر من المساحة التى كانت موجودة فى العام المنصرم، فترسل الدولة القصابين والمساحين لقياس الأرض وإعادة توزيعها بالعدل بحسب قانون النسبة والتناسب.  المشكلة فى نظر سير أننا نسينا منذ زمن طويل أصلنا المصرى القديم وأخذنا العلم فى مسار تعبر عنه رمزية قصة آدم وحواء حيث انتقل الإنسان من الليبيدو الجنسى أى الشهوة إلى الليبيدو المعرفى أى الرغبة فى التخلص من الجهل إلى الليبيدو الاستعبادى أى التحكم فى كل شيء. لقد تم اختزال علاقة الانسان بالأشياء إلى علاقة الملكية وأصبح التلوث هو الوسيلة التى يلجأ اليها الانسان ليطرد الكائنات الأخرى ويمتلك الأشياء. هكذا انتقلت غاية العلم من تحقيق العدل إلى الرغبة فى السيطرة على كل شيء. المفارقة هى أن الإنسان حينما ينجح فى السيطرة يصبح وضعه فى الكون أكثر هشاشة من ذى قبل. فحياة الإنسان فى الطبيعة تخضع لوضع الطفيلي. والطفيلى كائن حى يعيش على حساب كائن حى آخر. والعلاقة بين الطفيلى والمضيف يحكمها قانونان: إما الإفراط وإما التكامل. فى الحالة الأولى إذا استمر الطفيلى فى استنزاف المضيف فقد ينجح هذا الأخير فى التخلص منه، أو يموت المضيف وتنتهى معه حياة الطفيلي. أما التكامل فهو يعنى قبول الضيافة مع مراعاة حقوق المضيف وحدوده. يعيش الإنسان اليوم فى علاقته بالطبيعة فى ظل قانون الإفراط وعليه أن ينتقل فورا إلى وضع التكامل. الاجراءات التى تم اتخاذها حتى الآن لا تعنى تغيير المسار ولكن فقط تأجيل الكارثة. فأنت حينما تقود سيارتك لتعبر جسرا متهالكا سوف ينهار بك لن يفيد فى شيء تخفيض السرعة ولكن ينبغى تغيير الاتجاه. من أجل ذلك يدعو سير إلى ضرورة تأسيس عقد مع الطبيعة وهو ما يطلق عليه العقد الطبيعي. كلنا نسمع عن العقد الاجتماعى وهو الذى يتم بموجبه الاعتراف بالحقوق الطبيعية لكل البشر دون استثناء. عاشت البشرية زمنا طويلا لاتوجد فيه حقوق إلا للمواطنين الذكور وجاء العقد الاجتماعى ليمنح الحقوق لكل المستبعدين: العبيد والنساء والأطفال والأجانب. تكمن قوة العقد الاجتماعى فى أنه يبدأ بعبارة لكل إنسان الحق. ويكمن ضعفه فى أنه يقتصر على البشر وحدهم ويضع العالم والكائنات الأخرى خارج الملعب. وحتى حينما يصف العقد الاجتماعى الحق الانسانى بأنه طبيعى يكون المقصود هنا هو الطبيعة الانسانية وحدها والتى يعبر عنها العقل فيمنح نفسه كل الحقوق، ولا حقوق لكائنات أخرى. قوبلت دعوة ميشيل سير إلى تأسيس عقد طبيعى بنقد نابع من الاستغراب، يتجلى ذلك فى طرح أسئلة من نوع: من يصيغ العقد؟ وهل ستقوم الطبيعة بالتوقيع عليه؟ وفى حالة إخلال أحد الطرفين بواجباته من سيصدر الحكم؟ كل هذه الاعتراضات تم توجيهها قبل ذلك إلى الفلاسفة الداعين إلى العقد الاجتماعى. فهو عقد افتراضى وهذه سمة لكل عقد تأسيسى وهو أيضا عقد ميتافيزيقى يتجاوز الطبيعة إلى الثقافة وهو عقد منشئ لعلاقات جديدة بين البشر والأشياء ينبغى مراعاتها. أما فيما يتعلق بمسألة التوقيع على العقد، فصحيح أن العقد يضع حدودا لتدخلات الإنسان فى الطبيعة ولكن غايته الأخيرة هى حماية الإنسان من نفسه. فالأرض عاشت قبل الإنسان وسوف تعيش بعده ولكن الإنسان لا يستطيع أن يعيش دون الأرض ولهذا فهو الذى سوف يقوم بتوقيع العقد.  الاعتراف بالعقد الطبيعى سوف يكون له آثار على عمل المؤسسات السياسية وعلى التشريعات الصادرة، وقبل كل هذا آثار كبيرة على تربية الآطفال وإعدادهم للتعامل مع ما يقتضيه المستقبل. 


لمزيد من مقالات د. أنور مغيث

رابط دائم: