رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بين الرومانسية والأصولية

نتصور أن لكل صيرورة فكرية ارتدادات محتملة فى الاتجاهات العكسية تشبه ارتدادات الأجسام المادية التي ينظمها قانون الحركة لدى نيوتن، والقائل بأن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار، ومضاد له في الاتجاه. فالإمعان في العقلنة قد يستدعى نقيضها الخرافي أو السحري والإمعان في العلمنة قد يستدعى نقيضها الديني أو الأصولي، وكلاهما معا بمثابة وجهين لحركة الاستنارة. غير أن تعديلا مهما يبدو لنا ضروريا على قانون نيوتن الفيزيائي لحركة الأجسام ليناسب ما نتصوره قانونا لحركة الفكر. فكلما كانت صيرورة العقلانية أكثر عمقا وجذرية، كان ارتدادها في الاتجاه العكسي أقل سرعة وعنفا، على عكس حركة الأجسام المادية. فمثلا، عندما تكون مسيرة العقلانية طويلة وشاملة وعميقة، تنبع من قلب المجتمعات وتتغلغل فيها ولا تقتصر فقط على نخبة الفكر أو الحكم تتوارى احتمالات رفضها وتقل حدة الاحتجاج ضدها، ويصبح رد الفعل عليها أكثر سلاسة. وهكذا العلمانية، عندما تكون معتدلة ونابعة من تاريخ المجتمع نفسه، ليست مقحمة عليه من خارجه أو راديكالية تتعالى على قيمه الروحية أو تتعمد الصدام معها، فالأغلب أن لا تثير توترات مجتمعية كبيرة. والعكس أيضا صحيح، ولعل هذا يفسر لنا لماذا لم تشهد المجتمعات الأوروبية عقب حركة التنوير موجات أصولية عنيفة احتجاجا على خيار العقلنة والعلمنة من الأصل، كما جرى فى العالم العربي، بل فقط نزعات رومانسية تعكس احتجاجا هادئا على الإفراط في كلتيهما.

جاءت أولى ردات الفعل التاريخية على مشروع الاستنارة الأوروبي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر فى صورة رومانسية فلسفية ولدت من رحم من جان جاك روسو وكتابه الرائد حول “أصل التفاوت”، الذي مجد فيه حالة الطبيعة، وذم الملكية الخاصة التي أفسدت العالم وغذت الشر وعدم المساواة. تاليا، في مواجهة القبضة الخانقة للثورة الصناعية وآلامها الكبيرة المصاحبة للانتقال من حياة الريف والمزرعة ذي الطابع الجمعي إلى حياة المدينة والمصنع التي تستوجب الاستقلال والفردية، تخطت الرومانسية حيز الفلسفة إلى الفنون والآداب، خصوصا لدى الشعراء والفنانين الألمان والأدباء الإنجليز الكبار، كبايرون وألفريد تنيسون في قصيدته (للذكرى) 1850م، وتوماس إليوت في صيحته المدوية (الأرض الخراب)، وأخيرا تشارلز ديكنز في (أوقات عصيبة) 1854م، التي صورت المدينة الصناعية الجديدة باعتبارها الجحيم الأرضي المدمر للأخلاق الإنسانية وللنزعة الفردية.

أما ثانى ردات الفعل الرومانسية فامتدت بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، فى مواجهة التصورات المتشائمة حول نهاية الدين وموت الإله، حيث ذهب الأوروبيون، خصوصا أصحاب الحساسية المرهفة من الكتاب والفنانين والشعراء إلى أسيا في رحلات تشبه مواكب الحج بحثا عن روحانية هادئة فى دياناتها الطبيعية بما لها من رهافة أخلاقية تدعو إلى التسامي، ومنابع إشراقية ذات منحى صوفي، مع التحرر من مفهوم المؤسسة الدينية، خصوصا البوذية وفنونها القادرة على تهذيب الجسد والسيطرة على الروح كالنيرفانا واليوجا، قبل أن يتم بناء مراكز لتعليم تلك الفنون في المدن الأوروبية الكبرى، بحثا عن السلوى من ضغوط الحداثة ودمار الحروب، وعن شعور شفاف بالوجود الإنساني، يخلو من الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة. فى المقابل، استمر التنوير العربي مشروعا فكريا أكثر منه تجربة تاريخية حية، حيث العقلانية هشة، قائمة فقط داخل الكليات الجامعية والأسوار الأكاديمية وأحيانا نجدها في قلب النظم البيروقراطية، لكنها غائبة كليا عن الفضاء الواسع للحياة اليومية. كما ظلت العلمانية مفهوما محرما من الأساس، لدي الوعي السلفي المتجذر في الموروث التاريخي، حتى لو نجحت بعض التجارب في تمثلها كمصر، أو جرت محاولات فرضها من أعلي خصوصا في بلد كتونس. فى سياق كهذا نجحت الصيغة التوفيقية في حمل بعض أشعة الاستنارة إلى المجتمعات العربية، حينما بلغت ذروتها في ستينيات القرن العشرين، واستوعبت تجارب عدة سواء للدول التي كافحت ضد الاستعمار الغربي واعتبرت نفسها تقدمية كالناصرية في مصر والبعثية في العراق وسوريا، ناهيك عن الجزائر وتونس. أو للدول الملكية التي وُصفت آنذاك بالرجعية كالمغرب والأردن، لأن هذا الوصف ربما انطبق على الموقف السياسي من المعسكرين المتنافسين في الحرب الباردة، لكنه لا ينطبق على المرجعية الفكرية للدولتين اللتين حاولتا، كالدول التقدمية، تمثل الحداثة الغربية من داخل مرجعية أخلاقية تحتذي المبادئ العليا للشريعة الإسلامية، نصت عليها دساتير تلك الدول، صراحة أو ضمنا. لكن ما إن وقعت هزيمة يونيو 1967م وانكسرت شوكة النظام الناصري، حتى جرى حصار الفكر القومي الذي عبر عن النزعة التوفيقية خير تعبير، فتراجعت رموزه وتداعى رأسماله الثقافي والمنصات الإعلامية التي تتحدث باسمه وتدافع عنه، أمام تصاعد رموز ورأسمال ومنصات الوعي السلفي، لتبدأ سلسلة تداعيات أفضت في النهاية إلى بروز نمط التدين السياسي الذي ولد من رحم جماعة الإخوان المسلمين وتغذى على الثورة الإيرانية التي صاغت شيعية سياسية تقارع السنية السياسية.

وهنا أخذ الجدل الفكري الذي دار طوال القرن العشرين بين التيارات الثلاثة (العلموي، والتوفيقي، والسلفي)، يشهد تحولا سلبيا، جرى في ظله نفي الاتجاه التغريبي كتيار ثقافي عريض حتى لو بقيت تعبر عنه بعض الكتابات النافلة المقموعة في كهف مظلم، أو بعض ظواهر الإلحاد الموصوفة بالسوقية والمراهقة. كما تحرك التيار السلفي بكل تعبيراته الفكرية والسياسية إلى قلب الثقافة العربية بديلا للتيار التوفيقي. أما الأخطر فتمثل في سفور تيار جهادي يتمركز أخذ يمارس العنف لفرض تصوراته الرجعية على صعيدي السلطة السياسية والهوية الحضارية، بدءا من جماعات التكفير والهجرة والجماعة الإسلامية بمصر فى سبعينيات القرن العشرين، مرورا بالقاعدة في التسعينيات وصولا إلى النصرة وداعش في الألفية الثالثة. ومن ثم يتبدى لنا أن النزعات الأصولية لدينا هي المعادل الثقافي للنزعة الرومانسية الأوروبية، في الاحتجاج على صيرورات كالعقلنة والعلمنة، لا تزال هشة ومستعارة، غير قادرة على حماية نفسها من الهجمات المرتدة عليها. نكمل فى الأسبوع المقبل.

[email protected]
لمزيد من مقالات صلاح سالم

رابط دائم: