رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ثروت عكاشة.. القيمة والأفق «6»

هكذا تأسس المبدأ الذى أكده ثروت عكاشة عندما قال: «إن الثقافة جزءٌ أساسى من حياة كل فردٍ وجماعةٍ، وأن التنمية – التى ينبغى أن تتخذ من الإنسان غاية لها - تنطوى على بُعدٍ ثقافى أساسي». ولذلك بدأت وزارة الثقافة بتنفيذ مشروعها الخلّاق والرائد فى عام 1959 بعد انعقاد مؤتمر المثقفين فى العام نفسه انطلاقًا من إيمانٍ عميقٍ بأن دورها ينبغى ألا يكون قاصرًا على تقديم المستوى الرفيع من المُتعة العقلية للطبقة القادرة على التمتع بها فحسب، بل يجب أن يكون لها دور فعّال فى تحقيق أكبر قدرٍ من التكافؤ العقلانى والوجدانى فى آن. . ولن يتحقق هذا التكافؤ إلا بعد منظومة تشيع بين أبناء المجتمع مستوى متقاربا من المعارف، موازيا لمستوى تذوق الفنون، والرغبة فى اكتشاف أسرارها. ولن يؤدى ذلك إلى الارتقاء بمستوى الجماهير فحسب، بل يؤدى إلى المزيد من وعى الدولة بتحمل عبء تطوير الإنتاج الثقافى جنبًا إلى جنب الصناعة الثقافية من ناحيةٍ وتيسيرهما للناس من ناحيةٍ موازية. فتتحقق بذلك، الركيزتان اللتان تستند إليهما الثقافة وهما: التقدم المُستمر فى غير تكاسلٍ، وتحقيق التكافؤ العقلانى والوجدانى فى المجتمع. وهو ما يفرض على الدولة ضرورة متابعة التفكير فى صيغٍ جديدةٍ لتنمية الثقافة داخل إطار أوسع من تنمية المجتمع نفسه سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وعلميًّا على السواء.

وكان من نتائج مؤتمر 1959 رَسْم أُسس السياسة الثقافية التى أدرك بها ثروت عكاشة المفتاح السحرى الذى يفتح له الأبواب المغلقة لكى يحقق سياسة الربط بين تنمية الثقافة من ناحيةٍ، وسياسة التنمية الشاملة للمجتمع من ناحيةٍ موازية. أعنى التنمية التى تتأثر بالثقافة. هكذا خرج المثقفون، بخطةٍ شاملةٍ فى العمل الثقافى فى المؤتمرٍ العام الذى دعا إليه ثروت عكاشة فى مارس 1959، حيث تواصلت جلسات الحوار الجاد فى اجتماعات عامة وأخرى متخصصة فى لجانٍ نوعيةٍ. وكان من نتاج هذا المؤتمر فيما يقول ثروت عكاشة، أن تكشفت للمثقفين المصريين، الرؤية الثقافية على لسان جميع الفئات، والحكمة التى تقول «لن تنجح السياسات الثقافية إلا إذا ارتبطت بالتنمية الشاملة للمجتمع من ناحية، والارتباط الوثيق بالتنمية الاقتصادية من ناحيةٍ موازية، لكن بشرط أن يؤمن الجميع، بأن الحياة دائمًا نزّاعة إلى الحرية والتطور على السواء».

وقد أجمع المثقفون أن الفنان الحق هو الفنان الحر، وأن الدولة إذا ألزمت الفنان بأهداف عاجلة، فإنها تكون قد ضحَّت بمستقبلها فى سبيل حاضرها. وهذا هو ما فعله ثروت عكاشة نفسه، فقد فتح الباب بحق لتحرير الثقافة والعمل الثقافى على السواء، وجعل من نفسه سدًّا منيعًا يحول بين إمكانية تسلط الدولة وميلها إلى البطش، وحرية المثقف وميله إلى الإبداع الذى لا يخشى شيئًا، ولا يخاف من أحد. فقد نجح ثروت عكاشة فى أن يحقق للدولة هيبتها وكرامتها، وذلك فى الوقت الذى حقق فيه للمثقفين الآفاق المتسعة لكى يبدعوا بحريات لا تعرف القيود أو الأسوار. فازدهر الفن وكل أنواع الثقافة المقروءة والمسموعة والملموسة على نحوٍ غير مسبوق. ولم يتم ذلك إلا بفضل الصداقة العميقة القائمة على الاحترام المتبادل بين ثروت عكاشة من ناحيةٍ، والزعيم التاريخى عبد الناصر من ناحيةٍ مقابلة، فقد كان كلاهما يؤمن بقدرات الآخر، ووطنيته الخالصة، واقتناعه الكامل بأهمية الثقافة فى الحياة بوجهٍ عام. ولذلك كان عبد الناصر يعتبر الثقافة التى أمدها ثروت عكاشة بكل عناصر النماء والازدهار، مفخرته الشخصية التى كان يحرص على أن يُظهر ثمراتها لقادة الدول الأجنبية الذين كانوا يزورون مصر. وفى الوقت نفسه كان هؤلاء القادة لا يكفون عن الإعجاب بما يرونه من تقدمٍ وازدهارٍ لا مثيل لهما فى كل أنحاء العالم العربي، ابتداءً من فرقة رضا للفنون الشعبية، وليس انتهاءً بمسرح الجيب الذى كان يعرض طليعة المسرح التجريبى على امتداد أوروبا. وبدا الأمر كما لو كـــان هنـــاك اتفـــاق مُضمــر بيــن عبد الناصر وصديقه ثروت عكاشة؛ فالأول (عبد الناصر) أعطى ثقته كاملة للثانى (ثروت عكاشة) والثانى أعطى ثقته للمبدعين والفنانين والكتّاب، ولحسن الحظ لم يخذل واحد من الطرفين قرينه. وكانت النتيجة عهدًا واعدًا ناجحًا من حيوية الإبداع وحرية الثقافة فى الوقت نفسه.

وأشهدُ أن هذه الحرية لم تكن تنحصر فى القاهرة وحدها، وإنما كانت تمتد إلى كل الأقاليم. ولا أزال أذكر الجلسات التى جمعتنى وأصدقاء فى قصر ثقافة المحلة الكبري، والذى كان بداية الطريق الذى انتهى بنا إلى القاهرة لنصب فى تيارها الثقافى الوطني، ورغم اختلاف مشاربنا وانتماءاتنا الثقافية، كانت الديمقراطية تجمع بيننا، واحترام الاختلاف يصون لكلٍّ منا حقه فى التعبير عن رؤيته الخاصة للعالم حسب معتقداته. هكذا كان منّا الشيوعي، وكان منا الناصرى والقومي، فضلًا عن الليبرالى الذى كنتُهُ أنا وبعض الأصدقاء فى «شلة المحلة الكبري» التى انطلقت من قصر الثقافة ولم تجد أى عائقٍ يعوقها على أى شكلٍ كان.

والحق أن الدور الذى أدته قصور الثقافة فى تكوين الثقافة المصرية المعاصرة أو الحديثة، دورٌ ينبغى التأريخ له والكتابة عنه. ولسوء الحظ فقد ذهب الرواد الذين أسهموا فى بناء هذا الصرح العظيم الذى أُسميه دائمًا: «خط الدفاع الأول عن الثقافة المصرية»، والذى بفضله ظلت الثقافة المصرية فى أمانٍ وازدهارٍ إلى اليوم. ويا ليت القائمين على قصور الثقافة يهتمون بالتأريخ لدور هذه القصور، ولما حققته من إنجازات عظمى على امتداد المدن المصرية من الإسكندرية إلى الأقصر، ومــــن غرب مصر إلى شرقها. فقد كانت قصور الثقافة ولا تزال، منارات ثقافية مضيئة فى كل مكــــان. ولولا فخرى بهــــا واعتزازى بـــدورهـــا لما طلبتُ من فـــاروق حسنــى – حين كان وزيرًا- أن أنتقل إليها وأشرف عليها، ولكنه رفض ذلك وقال لى جملة لا أنساها: «لقد جعلتَ للمجلس الأعلى حضورًا عالميًّا، فهل أنقلك منه إلى شيء ليس فيه من علامات النجاح الكثير؟ مُتأسف ابقَ فى مكانك بالمجلس الأعلى للثقافة». ولكنى كنتُ ولا أزال، مؤمنًا بدور قصور الثقافة، هذا الصرح العظيم الذى انتبهت إليه عبقرية ثروت عكاشة، حين نقل تجربته من الدول الاشتراكية إلى أرض مصر، فأثمر هذا الصرح قصورًا مضيئة بأنوار الثقافة فى كل مكانٍ على أرض مصر. «وللمقال بقية»


لمزيد من مقالات د. جابر عصفور

رابط دائم: