احتفل أجدادنا بالربيع وكأنه ما يجلب الخير والرخاء، ولا غرابة فهو فصل بزوغ حبات القمح. ويبدو ان الربيع الحالي أعاد لنا هذا الشعور الفياض وحمل لنا طعما خاصا نتيجة لما حدث في مصر في أثناء الفترة الأخيرة.
لقد هل علينا ربيع هذا العام ونحن والعالم كله في ظلام وحيرة من آثار فيروس كورونا الملعون. وجاء خبر إغلاق قناة السويس بسبب جنوح السفينة حاملة الحاويات الرهيبة، وكأنه ينذر بضرر طويل المدى على سمعة مصر واقتصادها. وتمادى المشككون في الكلام عن عدم قدرة العاملين بالقناة على التعامل مع الحدث، وازداد الحديث بان مصر لن تستطيع إنقاذ الملاحة بالقناة، ورد خبراء الملاحة في هيئة قناة السويس بالعمل فى صمت ـ ودون توقف ـ ونجحوا في إزالة كل العقبات واحدة تلو الأخرى حتى عادت الحياة إلى هذا المرفأ الملاحي العالمي, وبدأ الناس والمحللون حول العالم ينظرون إلى مصر نظرة تقدير جديدة.
تلا ذلك الانتصار الرائع احتفالا ملكيا فاق في عظمته كل ما أقيم في مصر منذ عهد طويل، وهو نقل مومياوات ملوك وملكات مصر القديمة العظام. وكأن العالم لم يتوقع اهتماما بالغا لهذا الحدث، وقد لمست ذلك حين اجابنى أحد خبراء الاعلام العالمى على تشجيعي له: لا أعتقد ان نقلهم من متحف إلى آخر موضوع مهم!.. أسعدني كثيرا ان هذا الرجل اتصل بي بعد الاحتفالية ليتأسف عما ذكر وليقول ان المصريين قد أبدعوا هذه المرة! .. وأضاف هذا الاعلامي الذي زار مصر من قبل أنه تعجب ان المسيرة تمت دون أى خلل ودون توقف في مدينة تكتظ بما يقرب من ٣٠ مليون نسمة!.
اهتم العالم اجمع بما نقلته وسائل الاتصال خاصة بين الشباب مما كان له بالغ الأثر في رفعة مكانة مصر في الإعداد والتخطيط فنيا واعلاميا. لقد اثبت خبراء مصر مكانة غير مسبوقة في التنظيم والإخراج وروعة الإبداع الفني الذي نتج عنه احتفال راق. اهتم شعب مصر من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب بكل مراحل المسيرة الملكية. وأكثر من ذلك كان اهتمام العالم .. وهو ما يعنى تنشيط السياحة إلى مصر من كل إنحاء العالم.
فور انطلاق الاحتفال المسرحي اهتزت المشاعر من وقع الموسيقى والغناء. وكان لانتظام شباب مصر ـ نساء ورجالا ـ انبهارا غير مسبوق. في وقت محدود حلقت بنا أصوات بنات مصر إلى أعالي الكون. كان لكل ابتهاله إلى خالق الكون وقع عظيم على قلوبنا وعقولنا ومشاعرنا. استمع العلم كله إلى شدو الأصوات الجميلة المعبرة لكل من رهام عبد الكريم ونسمة محجوب باللغة العربية الناعمة المؤثرة.
ثم سمعنا صوتا ملائكيا جهوريا يعلو إلى السماء... وانبهرنا لان الكلمات والترانيم التي شدتها بكل عظمة ورهبة الفنانة القديرة أميرة سليم لم تكن بلغتنا الحالية ولا بالغات اللاتينية ولكن باللغة المصرية القديمة.
أفقنا..ولو للحظة لنشعر بالفخر لأننا أحفاد هؤلاء من ننقل رفاتهم إلى متحف الحضارة المجدد فى الفسطاط. كان لشدوها أثرا بالغا وحاول معظم من استمع إليها ان يرجعوا إلى معاني كلمات اللغة المصرية القديمة. في هذه اللحظة بالذات أسفت كثيرا ـ كما أسف آخرون ـ لأننا لا نعلم أطفالنا لغة الأجداد العظماء، لكي نتعرف أكثر على فكرهم وقدراتهم لرفعة مصر القديمة إلى مكانة اعلي في مخيلتنا.
كذلك فقد كان للإبداع الموسيقى ما جعل الناس تنظر إلى نادر عباسى بكل تبجيل واحترام. فكلما أشار المايسترو الى مكان ما, بزغ صوت رائع ليملأ القاعة جمالا متميزا مثل ربابة احمد منيب وناي هانئ البدري وكمان سلمى سرور وكذلك طبول رضوى البحيري والتي جلست وكأنها في موكب الملوك وأظهرت عظمة نساء مصر عندما يتطلب الأمر موقفا رسميا جليلا.
وكلما طافت الكاميرا الذكية لمهندس التصوير الراقى لشباب مصر في ساحة الأهرام أو معبد الملكة حتشبسوت او ميدان التحرير أظهرت لنا لحنا جميلا وتناسقا لأصوات تغنى لتملأ المسرح بهجة وسحرا.
أضاف إلى رقى الاحتفال ان السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي وقف للتحية منتبها طوال مرور عربات الملوك والملكات عند وصولهم إلى الموقع الجديد. كان ذلك إعلانا بان شعب مصر وقادتها على حد سواء يفتخرون بتاريخ مصر وعظمائها على مر العصور.
كل هذا النجاح المبهر حدثا مبهرا وفى أحسن توقيت ممكن. فطوال السنوات الأخيرة أثبتت الثورات في منطقتنا الكثير من الجدل عن هويتنا وعن قدراتنا وأيضا عن خيباتنا. وكنا في مصر لا نعى ما نحتاج لعودتنا إلي الرقى الفكري الذي اتصف به بلدنا أزمنة طويلة. لذلك فاني اعتقد ان مصر كانت في حاجة ماسة لنجاح نستلهم منه عظمتنا.
ولنا ان نسعد لأن الربيع الحالي قد أثبت النجاح المبهر لخبراء قناة السويس ثم تلاه عظمة الاحتفال بنقل ملوك وملكات مصر إلى المتحف الجديد بالفسطاط. لقد غير الحدثان فكر العالم عنا.. والأهم من ذلك فقد الهمانا رؤية جديدة لما يمكننا ان نفعل حيال شباب مصر وصالح المستقبل.
لمزيد من مقالات د. فاروق الباز رابط دائم: