لكل كاتب حكاياته الخاصة التى لايستطيع أن يسردها سوى قلمه؛ وصاحب قلم اليوم هو الروائى والقاص المصرى عادل عصمت الذى استطاع بعينه اللاقطة للتفاصيل أن يغزل حكايات أبطاله؛ بأحلامهم البسيطة كحياتهم، وأزماتهم الموجعة المزمنة، بأسلوب سلس منح القارئ مسافة للتأمل ومعايشة رحلة البحث عن المعنى فى كل قصة؛ بدايةً من أولى رواياته «هاجس موت» عام 1995 وصولا إلى المجموعة القصصية الأخيرة «مخاوف نهاية العمر» التى نقدم قراءة لها اليوم؛ ترجمت أعماله للعديد من اللغات، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية عن رواية «أيام النوافذ الزرقاء» عام 2011، وجائزة نجيب محفوظ عام 2016 عن «حكايات يوسف تادرس»، وجائزة ساويرس عن رواية « الوصايا» عام 2020، التى وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية فى 2019..اليوم نحن فى حضرة صاحب القلم الثرى لنعرف المزيد عن حكاياته وأبطاله.
من قصة قصيرة لرواية.. لماذا يغلف الحزن والشجن معظم سطور ابداعاتك المختلفة؟
اكتب هذه القصص فى حالة من الشغف والرغبة فى التعبير عن حقيقة التجربة التى أسردها. كيف تتسلل إليها الأحزان؟ لا أعرف. قد يكون لأن الحياة ليست وردية عند من أحكى قصصهم، وربما لأن الكتابة الأدبية منجذبة بطبيعتها إلى تفحص أحزان الناس وصراعهم من أجل إقامة حياتهم. لن أكون قادرا على تقديم إجابة شافية، وإن كنت أتمنى أن تصل حالة الشغف والمحبة التى أكتب بها هذه القصص إلى القارئ.
كيف تستطيع أن تسرد سيرة عائلة على مدى سنوات عديدة بمختلف المراحل بهذا القدر من التكثيف والبراعة؛ كعائلة رواية «النوافذ الزرقاء» ورواية «صوت الغراب» على سبيل المثال؟
السبب أن التركيز فى هذه القصص كان على معاناة بطل واحد، ولم يكن الغرض هو سرد حياة العائلة نفسها. فى «أيام النوافذ الزرقاء»؛ التركيز كان على معاناة مهندس شاب ناجح يعمل فى بلاد الخليج، لكنه يعانى إفلاسا روحيا رغم غناه المادى، ولا يجد أمامه حلا لهذا الجوع الروحى، غير أن يحاول استعادة جنته المفقودة فى بيت الجدة، من أجل مقاومة عبثية الحياة التى يعيشها. وفى «صوت الغراب» كان التركيز على الرغبة فى التحرر من الحياة الخالية من المعنى من وجهة نظر الراوي- للعائلة التى أدت فى حالة الفشل، إلى أن يتحول الراوى إلى غراب. مركز الثقل فى هذه القصص لايكون سرد قصة العائلة بل معاناة البطل، وهو ما لايستدعى من تواريخ هذه العائلات إلا ما يخدم التعبير عن معاناة البطل وتجسيدها كخبرة إنسانية وروحية. لقد تعلمت أن أحب الشكل الصافى للرواية، لا الإطالة إلا إذا كانت تخدم النص.
دائما هناك بعد فلسفى يُغلف أحداث رواياتك؛ كفلسفة الجد فى رواية «الوصايا»؛ هل ساعدتك دراسة الفلسفة فى رسم كلماتك الأدبية بهذا الشكل، رغم أن بعض كبار الأدباء لا يفضلون ذلك؟
كلام الجد فى رواية الوصايا لا يحتاج إلى تعلم الفلسفة؛ إنه كلام يمكن أن يسمع المرء مثله من الشيوخ فى القرى والصحراء، والأمر لا يخص أن الكاتب يفضل ذلك أو لا، بل هل يحتاجه العمل الفنى أم لا؟ هل هذه الأفكار لها دور درامى فى تجسيد التجربة وسرد القصة، أم هى مجرد زخرفة لتزيين النص والإيحاء بالعمق؟ والحكم ليس لى هنا بطبيعة الحال.
اخذت منك رواية «الوصايا» 17 عاما تقريبا للخروج إلى النور لتصبح كما ذكرت من أهم التجارب وأصعبها فى تاريخك الادبي. من خلال تجربتك؛ متى يشعر الكاتب ان القصة مكتملة، وما هو الطريق للوصول لنضج الأحداث؟
تظل القصة حائرة بالنسبة لي- حتى تجد الشكل الذى تتجسد فيه، مجرد خبرة غير متشكلة، مثل أى قطعة عجين رخوة، والشكل هنا هو عملية نمو، مثل كل عمليات النمو فى الطبيعة، تحتاج إلى وقت حتى يشعر المرء بأن الطريقة التى تجسدت بها القصة هى ملامحها التى لم يكن يعرفها، وقد تكشفت له عبر الزمن. فى تلك اللحظة لا يمكن أن يفرق المرء بين التجربة والشكل الذى أخذته، إنه الطريقة التى عبرت بها القصة عن ذاتها. خذى مثلا قصة «زينب فخر الدين» من «مجموعة مخاوف نهاية العمر»، وتخيلى الطرق المختلفة التى كان يمكن أن تكتب بها هذه القصة العادية، ولكن -بالنسبة لي- ما كان يمكن أن اعتبرها قصة إلا بأن يظهر هذا الشكل الخماسى الذى كتبت به، لقد خلقت شكلها الذى يعبر عن أجوائها المعقدة.
فى تجربتك «ناس واماكن» كنت أقرب لاستخدام أسلوب الأفلام الوثائقية التى أخذت القارئ فى جولة من القديم للحديث.. برأيك؛ هل نحن بحاجة لهذا النوع من الكتابة لتعريف الأجيال القادمة بمراحل كادت تختفى بعد أن اقتحمتها التحولات السريعة؟
المكتبة العربية فى حاجة ماسة لهذه الكتب التى تتحرى بدقة وأمانة ملامح الأماكن والحياة التى تتلاشى أمام أعيننا، إنها مفيدة ليس فقط للأجيال القادمة ولكن لنا نحن أيضا، لنشعر بأننا لا نعيش فى عالم كرتونى له بعد واحد أو بعدان، بل عالم مجسم، وأننا جزء من تغيرات دائمة لا تتوقف، ومن جهتى أشعر بأنه من الصعب معرفة «الحاضر» بغير الرجوع إلى «الماضي»، فالأمر ليس توثيقيا خالصا، بل فيه جانب من الرغبة فى فهم ما حدث وكيف.
دائما يبحث أبطال عادل عصمت عن معنى، فهل وجد صاحب الابطال ذلك المعنى خلال رواياته أم مازال مفقودا؟
لايزال المعنى مفقودا، ولكن محاولة إيجاد المعنى لاتزال مستمرة، فالإنسان يحاول إقامة معنى لحياته لكى يقاوم ما يشعر به من عبثية الحياة وزوالها، ابتداء من المعانى القريبة مثل أن تجعل «أم» معنى حياتها فى تربية أولادها أو يجعل «شخص ما» معنى حياته فى الوصول إلى منصب رفيع، ويمتد ذلك إلى المعانى السامية مثل اختراع دواء لعلاج مرض أو الوصول إلى نظرية فى الفيزياء لا أعرف إنسانا لا يحاول إقامة معنى لحياته.
ما هى الاسماء التى تأثرت بها وشكلت وجدانك وخيالك الأدبى على مدى السنين؟
كل عمل يقرؤه الإنسان يؤثر فيه حتى لو لم يعجبه، على الأقل يعرّفه بطرق الكتابة التى لا يحبها، وبالنسبة لى كل من قرأت لهم أثروا فيّ وشكلوا وجدانى وخيالى الأدبى، لأننى أدرت مع أعمالهم حوارا ساعدنى على فهم واكتشاف طريقتى فى الكتابة.
رغم ترويج البعض مقولة موت القصة القصيرة .. هل اصبحت القصة القصيرة أخيرا فن العصر؟ وبرأيك ما سر البقاء؟
كيف تموت القصة القصيرة ونحن مازلنا نحب أن نقرأها؟ سوف تموت القصص والروايات التى لا تثير اهتمام الناس، وتحرك وجدانهم، القصص المكررة الممسوخة التى لا تتحرى غير الأداء فى شكل القصة القصيرة، وليس تجسيد تجارب إنسانية فى هذا الشكل. لقد مُنحت جائزة نوبل للأدب، لأول مرة فى تاريخها، لـ «أليس منرو» الكاتبة الكندية التى لم تكتب غير القصة القصيرة، لم تمت القصة وسيعيش كل فن يقدر على تحريك وجداننا وفهمنا لما نعيش.
كيف ترى عادل عصمت بعد آخر مجموعة قصصية؟
أراه قد تقدم فى العمر، وكلما مرت به الأيام، ازدادت حيرته أمام تعقيد الحياة وتبدلاتها، ويشعر بجهله يتسع بلا حدود، لكن ما يقيم حياته فى قلب تلك المتاهة، هو أنه لايزال شغوفا بكتابة القصص، بطريقة أكثر صفاء من الطريقة التى كان يكتب بها فى بداياته.
ماذا عن أعمالك القادمة؟
أعمل على الانتهاء من تصحيح بروفات رواية سوف تنشر فى شهر يونيو فى معرض الكتاب المقبل.
رابط دائم: